فصل منزلة الرياضة
ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الرياضة .
هي تمرين النفس على الصدق والإخلاص .
قال صاحب المنازل : هي تمرين النفس على قبول الصدق .
[ ص: 473 ] وهذا يراد به أمران : تمرينها على قبول الصدق إذا عرضه عليها في أقواله وأفعاله وإرادته ، فإذا عرض عليها الصدق قبلته وانقادت له وأذعنت له .
والثاني : قبول الحق ممن عرضه عليه ، قال الله
والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون فلا يكفي صدقك ، بل لا بد من صدقك وتصديقك للصادقين ، فكثير من الناس يصدق ، ولكن يمنعه من التصديق كبر أو حسد ، أو غير ذلك .
قال : وهي على ثلاث درجات : رياضة عامة ، وهي تهذيب الأخلاق بالعلم ، وتصفية الأعمال بالإخلاص ، وتوفير الحقوق في المعاملة .
أما تهذيب الأخلاق بالعلم فالمراد به إصلاحها وتصفيتها بموجب العلم ، فلا يتحرك بحركة ظاهرة أو باطنة إلا بمقتضى العلم ، فتكون حركات ظاهرة وباطنة موزونة بميزان الشرع .
وأما تصفية الأعمال بالإخلاص فهو تجريدها عن أن يشوبها باعث لغير الله ، وهي عبارة عن توحيد المراد ، وتجريد الباعث إليه .
وأما توفير الحقوق في المعاملة فهو أن تعطي ما أمرت به من حق الله وحقوق العباد كاملا موفرا ، قد نصحت فيه صاحب الحق غاية النصح ، وأرضيته كل الرضا ، ففزت بحمده لك وشكره .
ولما كانت هذه الثلاثة شاقة على النفس جدا كان تكلفها رياضة ، فإذا اعتادها صارت خلقا .
قال : ورياضة الخاصة حسم التفرق ، وقطع الالتفات إلى المقام الذي جاوزه ، وإبقاء العلم يجري مجراه .
يريد بحسم التفرق قطع ما يفرق قلبك عن الله بالجمعية عليه ، والإقبال بكليتك إليه ، حاضرا معه بقلبك كله ، لا تلتفت إلى غيره .
وأما قطع الالتفات إلى المقام الذي جاوزه فهو أن لا يشتغل باستحسان علوم ذلك المقام ولذته واستحسانه ، بل يلهى عنه معرضا مقبلا على الله ، طالبا للزيادة ، خائفا
[ ص: 474 ] أن يكون ذلك المقام له حجابا يقف عنده عن السير ، فهمته حفظه ، ليس له قوة ولا همة أن ينهض إلى ما فوقه ، ومن لم تكن همته التقدم فهو في تأخر ولا يشعر ، فإنه لا وقوف في الطبيعة ، ولا في السير ، بل إما إلى قدام ، وإما إلى الوراء ، فالسالك الصادق لا ينظر إلى ورائه ، ولا يسمع النداء إلا من أمامه لا من ورائه .
وأما إبقاء العلم يجري مجراه : فالذهاب مع داعي العلم أين ذهب به ، والجري معه في تياره أين جرى .
وحقيقة ذلك الاستسلام للعلم ، وأن لا تعارضه بجمعية ، ولا ذوق ، ولا حال ، بل امض معه حيث ذهب ، فالواجب تسليط العلم على الحال ، وتحكيمه عليه ، وأن لا يعارض به .
وهذا صعب جدا إلا على الصادقين من أرباب العزائم ، فلذلك كان من أنواع الرياضة .
ومتى تمرنت النفس عليه وتعودته صار خلقا ، وكثير من السالكين إذا لاحت له بارقة ، أو غلبه حال أو ذوق خلى العلم وراء ظهره ، ونبذه وراءه ظهريا ، وحكم عليه الحال ، هذا حال أكثر السالكين ، وهي حال أهل الانحراف الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا ، ولهذا عظمت وصية أهل الاستقامة من الشيوخ بالعلم والتمسك به .