قال : الدرجة الثانية :
الزهد في الفضول . وهو ما زاد على المسكة والبلاغ من القوت ، باغتنام التفرغ إلى عمارة الوقت . وحسم الجأش ، والتحلي بحلية الأنبياء والصديقين .
[ ص: 20 ] الفضول ما يفضل عن قدر الحاجة . والمسكة ما يمسك النفس من القوت والشراب ، واللباس والمسكن ، والمنكح إذا احتاج إليه . والبلاغ هو البلغة من ذلك ، الذي يتبلغ به المسافر في منازل السفر . فيزهد فيما وراء ذلك ، اغتناما لتفرغه لعمارة وقته .
ولما كان الزهد لأهل الدرجة الأولى خوفا من المعتبة ، وحذرا من المنقصة كان الزهد لأهل هذه الدرجة أعلى وأرفع . وهو اغتنام الفراغ لعمارة أوقاتهم مع الله ؛ لأنه إذا اشتغل بفضول الدنيا ، فاته نصيبه من انتهاز فرصة الوقت . فالوقت سيف إن لم تقطعه وإلا قطعك .
وعمارة الوقت الاشتغال في جميع آنائه بما يقرب إلى الله ، أو يعين على ذلك من مأكل أو مشرب ، أو منكح ، أو منام ، أو راحة . فإنه متى أخذها بنية القوة على ما يحبه الله ، وتجنب ما يسخطه . كانت من عمارة الوقت ، وإن كان له فيها أتم لذة فلا تحسب عمارة الوقت بهجر اللذات والطيبات .
فالمحب الصادق ربما كان سيره القلبي في حال أكله وشربه ، وجماع أهله وراحته ، أقوى من سيره البدني في بعض الأحيان .
وقد حكي عن بعضهم أنه كان يرد عليه - وهو على بطن امرأته - حال لا يعهدها في غيرها .
ولهذا سبب صحيح . وهو اجتماع قوى النفس وعدم التفاتها حينئذ إلى شيء ، مع ما يحصل لها من السرور والفرح . والسرور يذكر بالسرور . واللذة تذكر باللذة . فتنهض الروح من تلك الفرحة واللذة إلى ما لا نسبة بينها وبينها بتلك الجمعية ، والقوة والنشاط ، وقطع أسباب الالتفات ، فيورثه ذلك حالا عجيبة .
ولا تعجل بالإنكار . وانظر إلى قلبك عند هجوم أعظم محبوب له عليه في هذه الحال ، كيف تراه ؟ فهكذا حال غيرك .
ولا ريب أن النفس إذا نالت حظا صالحا من الدنيا قويت به وسرت ، واستجمعت قواها وجمعيتها . وزال تشتتها .
اللهم اغفر . فقد طغى القلم . وزاد الكلم ، فعياذا بك اللهم من مقتك .
وأما حسم الجأش فهو قطع اضطراب القلب ، المتعلق بأسباب الدنيا ، رغبة ورهبة ، وحبا وبغضا ، وسعيا . فلا يصح الزهد للعبد حتى يقطع هذا الاضطراب من قلبه . بأن لا يلتفت إليها ، ولا يتعلق بها في حالتي مباشرته لها وتركه . فإن الزهد زهد
[ ص: 21 ] القلب ، لا زهد الترك من اليد وسائر الأعضاء . فهو تخلي القلب عنها . لا خلو اليد منها .
وأما التحلي بحلية الأنبياء والصديقين فإنهم أهل الزهد في الدنيا حقا . إذ هم مشمرون إلى علم قد رفع لهم غيرها . فهم زاهدون ، وإن كانوا لها مباشرين .