قال : وهو على ثلاث درجات . الدرجة الأولى : تجريد الانقطاع عن الحظوظ
[ ص: 32 ] واللحوظ إلى العالم ، خوفا أو رجاء ، أو مبالاة بحال .
قلت : التبتل يجمع أمرين اتصالا وانفصالا . لا يصح إلا بهما .
فالانفصال : انقطاع قلبه عن حظوظ النفس المزاحمة لمراد الرب منه . وعن التفات قلبه إلى ما سوى الله ، خوفا منه ، أو رغبة فيه ، أو مبالاة به ، أو فكرا فيه ، بحيث يشغل قلبه عن الله .
والاتصال : لا يصح إلا بعد هذا الانفصال . وهو اتصال القلب بالله ، وإقباله عليه ، وإقامة وجهه له ، حبا وخوفا ورجاء ، وإنابة وتوكلا .
ثم ذكر الشيخ ما يعين على هذا التجريد ، وبأي شيء يحصل . فقال :
بحسم الرجاء بالرضا ، وقطع الخوف بالتسليم ، ورفض المبالاة بشهود الحقيقة .
يقول : إن
الذي يحسم مادة رجاء المخلوقين من قلبك هو الرضا بحكم الله عز وجل وقسمه لك . فمن رضي بحكم الله وقسمه ، لم يبق لرجاء الخلق في قلبه موضع .
والذي يحسم مادة الخوف هو التسليم لله . فإن من سلم لله واستسلم له ، وعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وما أخطأه لم يكن ليصيبه ، وعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له - لم يبق لخوف المخلوقين في قلبه موضع أيضا . فإن نفسه التي يخاف عليها قد سلمها إلى وليها ومولاها . وعلم أنه لا يصيبها إلا ما كتب لها . وأن ما كتب لها لا بد أن يصيبها . فلا معنى للخوف من غير الله بوجه .
وفي التسليم أيضا فائدة لطيفة . وهي أنه إذا سلمها الله فقد أودعها عنده . وأحرزها في حرزه . وجعلها تحت كنفه . حيث لا تنالها يد عدو عاد ولا بغي باغ عات .
والذي يحسم مادة المبالاة بالناس شهود الحقيقة . وهو رؤية الأشياء كلها من الله ، وبالله ، وفي قبضته ، وتحت قهره وسلطانه . لا يتحرك منها شيء إلا بحوله وقوته . ولا ينفع ولا يضر إلا بإذنه ومشيئته . فما وجه المبالاة بالخلق بعد هذا الشهود ؟