قال : الدرجة الثانية تجريد الانقطاع عن التعريج على النفس بمجانبة الهوى .
[ ص: 33 ] وتنسم روح الأنس ، وشيم برق الكشف .
الفرق بين هذه الدرجة والتي قبلها : أن الأولى انقطاع عن الخلق ، وهذه انقطاع عن النفس . وجعله بثلاثة أشياء :
أولها :
مجانبة الهوى ومخالفته ونهي نفسه عنه ؛ لأن اتباعه يصد عن التبتل .
وثانيها : - وهو بعد مخالفة الهوى - تنسم روح الأنس بالله ، والروح للروح كالروح للبدن . فهو روحها وراحتها . وإنما حصل له هذا الروح لما أعرض عن هواه . فحينئذ تنسم روح الأنس بالله . ووجد رائحته . إذ النفس لا بد لها من التعلق . فلما انقطع تعلقها من هواها وجدت روح الأنس بالله . وهبت عليها نسماته . فريحتها وأحيتها .
وثالثها : شيم برق الكشف . وهو مطالعته واستشرافه ، والنظر إليه . ليعلم به مواقع الغيث ومساقط الرحمة .
وليس مراده بالكشف هاهنا الكشف الجزئي السفلي ، المشترك بين البر والفاجر ، والمؤمن والكافر ، كالكشف عن مخبآت الناس ومستورهم . وإنما هو الكشف عن ثلاثة أشياء ، هن منتهى كشف الصادقين أرباب البصائر .
أحدها : الكشف عن منازل السير .
والثاني : الكشف عن عيوب النفس ، وآفات الأعمال ومفسداتها .
والثالث : الكشف عن معاني الأسماء والصفات ، وحقائق التوحيد والمعرفة .
وهذه الأبواب الثلاثة هي مجامع علوم القوم . وعليها يحومون . وحولها يدندنون . وإليها يشمرون . فمنهم من جل كلامه ومعظمه في السير وصفة المنازل . ومنهم من جل كلامه في الآفات والقواطع . ومنهم من جل كلامه في التوحيد والمعرفة ، وحقائق الأسماء والصفات .
والصادق الذكي يأخذ من كل منهم ما عنده من الحق . فيستعين به على مطلبه . ولا يرد ما يجده عنده من الحق لتقصيره في الحق الآخر . ويهدره به . فالكمال المطلق لله رب العالمين ، وما من العباد إلا له مقام معلوم .