[ ص: 34 ] قال : الدرجة الثالثة تجريد الانقطاع إلى السبق بتصحيح الاستقامة ، والاستغراق في قصد الوصول ، والنظر إلى أوائل الجمع .
لما جعل الدرجة الأولى انقطاعا عن الخلق ، والثانية انقطاعا عن النفس ، جعل الثالثة طلبا للسبق . وجعله بتصحيح
الاستقامة . وهي الإعراض عما سوى الحق . ولزوم الإقبال عليه ، والاشتغال بمحابه . ثم بالاستغراق في قصد الوصول .
وهو أن يشغله طلب الوصول عن كل شيء بحيث يستغرق همومه وعزائمه وإرادته وأوقاته . وإنما يكون ذلك بعد بدو برق الكشف المذكور له .
وأما النظر إلى أوائل الجمع فالجمع هو قيام الخلق كلهم بالحق وحده . وقيامه عليهم بالربوبية والتدبير .
والنظر إلى أوائل ذلك هو الالتفات إلى مقدماته وبداياته . وهي العقبة التي ينحدر منها على وادي الفناء .
وقد قيل : إنها وقفة تعترض القاطع لأودية التفرقة قبل وصوله إلى الجمع . ومنها يشرف عليه .
وهذه الوقفة تعترض كل طالب مجد في طلبه . فمنها يرجع على عقبه ، أو يصل إلى مطلبه كما قيل :
لابد للعاشق من وقفة
ما بين سلوان وبين غرام وعندها ينقل أقدامه إما إلى خلف وإما أمام
والذي يظهر لي من كلامه أن أوائل الجمع مبادئه ولوائحه وبوارقه .
وبعد هذا درجة رابعة . وهي الانقطاع عن مراده من ربه . والفناء عنه إلى مراد ربه منه ، والفناء به . فلا يريد منه ، بل يريد ما يريده ، منقطعا به عن كل إرادة . فينظر في أوائل الجمع في مراده الديني الأمري الذي يحبه ويرضاه .
وأكثر أرباب السلوك عندهم : (
إياك نعبد ) فرق ، (
وإياك نستعين ) جمع .
ثم منهم من يرى أن ترك الجمع زندقة وكفر . فهو يعرض عن الجمع إلى الفرق .
ومنهم من يرى أن مقام التفرقة ناقص مرغوب عنه . ويرى سوء حال أهله
[ ص: 35 ] وتشتتهم . فيرغب عنه عاملا على الجمع . يتوجه معه حيث توجهت ركائبه .
والمستقيمون منهم يقولون : لا بد للعبد السالك من جمع وفرق ، وقيام العبودية بهما . فمن لا تفرقة له لا عبودية له . ومن لا جمع له لا معرفة له ولا حال .
ف : (
إياك نعبد ) فرق . : (
وإياك نستعين ) جمع .
والحق : أن كلا من مشهدي (
إياك نعبد وإياك نستعين ) متضمن للفرق والجمع ، وكمال العبودية بالقيام بهما في كل مشهد .
ففرق : (
إياك نعبد ) تنوع ما يعبد به ، وكثرة تعلقاته وضروبه .
وجمعه : توحيد المعبود بذلك كله . وإرادة وجهه وحده ، والفناء عن كل حظ ومراد يزاحم حقه ومراده .
فتضمن هذا المشهد فرقا في جمع ، وكثرة في وحدة . فصاحبه يتنقل في منازل العبودية من عبادة إلى عبادة ، ومعبود واحد ، لا إله إلا هو .
وأما فرق : (
وإياك نستعين ) فشهود ما يستعين به عليه ، ومرتبته ومنزلته ، ومحله من النفع والضر ، وبدايته وعاقبته ، واتصاله - بل وانفصاله - وما يترتب عليه من هذا الاتصال والانفصال .
ويشهد - مع ذلك - فقر المستعين وحاجته ونقصه ، وضرورته إلى كمالاته التي يستعين ربه في تحصيلها ، وآفاته التي يستعين ربه في دفعها . ويشهد حقيقة الاستعانة وكفاية المستعان به . وهذا كله فرق يثمر عبودية هذا المشهد .
وأما جمعه : فشهود تفرده سبحانه بالأفعال ، وصدور الكائنات بأسرها عن مشيئته ، وتصريفها بإرادته وحكمته .
فغيبته بهذا المشهد عما قبله من الفرق : نقص في العبودية ، كما أن تفرقه في الذي قبله دون ملاحظته : نقص أيضا . والكمال إعطاء الفرق والجمع حقهما في هذا المشهد والمشهد الأول .
فتبين تضمن : (
إياك نعبد وإياك نستعين ) للجمع والفرق . والله المستعان .