قال :
الدرجة الثانية من درجات المراقبة : مراقبة نظر الحق برفض المعارضة ، بالإعراض عن الاعتراض ، ونقض رعونة التعرض .
هذه مراقبة لمراقبة الله لك . فهي مراقبة لصفة خاصة معينة . وهي توجب صيانة الباطن والظاهر . فصيانة الظاهر : بحفظ الحركات الظاهرة . وصيانة الباطن : بحفظ الخواطر والإرادات والحركات الباطنة ، التي منها رفض معارضة أمره وخبره . فيتجرد الباطن من كل شهوة وإرادة تعارض أمره ، ومن كل إرادة تعارض إرادته . ومن كل شبهة تعارض خبره . ومن كل محبة تزاحم محبته . وهذه حقيقة القلب السليم الذي لا ينجو إلا من أتى الله به . وهذا هو حقيقة تجريد الأبرار المقربين العارفين . وكل تجريد سوى هذا فناقص . وهذا تجريد أرباب العزائم .
ثم بين الشيخ سبب المعارضة ، وبماذا يرفضها العبد . فقال : بالإعراض عن الاعتراض . فإن المعارضة تتولد من الاعتراض .
والاعتراض ثلاثة أنواع سارية في الناس . والمعصوم من عصمه الله منها .
النوع الأول : الاعتراض على أسمائه وصفاته بالشبه الباطلة ، التي يسميها أربابها قواطع عقلية . وهي في الحقيقة خيالات جهلية ، ومحالات ذهنية ، اعترضوا بها على أسمائه وصفاته عز وجل . وحكموا بها عليه . ونفوا لأجلها ما أثبته لنفسه ، وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم . وأثبتوا ما نفاه ، ووالوا بها أعداءه . وعادوا بها أولياءه . وحرفوا بها الكلم عن مواضعه . ونسوا بها نصيبا كثيرا مما ذكروا به وتقطعوا لها أمرهم بينهم زبرا ، كل حزب بما لديهم فرحون .
والعاصم من هذا الاعتراض التسليم المحض للوحي . فإذا سلم القلب له رأى صحة ما جاء به ، وأنه الحق بصريح العقل والفطرة . فاجتمع له السمع والعقل والفطرة . وهذا أكمل الإيمان . ليس كمن الحرب قائم بين سمعه وعقله وفطرته .
[ ص: 69 ] النوع الثاني : الاعتراض على شرعه وأمره . وأهل هذا الاعتراض ثلاثة أنواع :
أحدها : المعترضون عليه بآرائهم وأقيستهم ، المتضمنة تحليل ما حرم الله سبحانه وتعالى ، وتحريم ما أباحه ، وإسقاط ما أوجبه ، وإيجاب ما أسقطه ، وإبطال ما صححه ، وتصحيح ما أبطله ، واعتبار ما ألغاه ، وإلغاء ما اعتبره ، وتقييد ما أطلقه ، وإطلاق ما قيده .
وهذه هي الآراء والأقيسة التي اتفق السلف قاطبة على ذمها ، والتحذير منها . وصاحوا على أصحابها من أقطار الأرض . وحذروا منهم ، ونفروا عنهم .
النوع الثاني :
الاعتراض على حقائق الإيمان والشرع بالأذواق والمواجيد والخيالات ، والكشوفات الباطلة الشيطانية ، المتضمنة شرع دين لم يأذن به الله ، وإبطال دينه الذي شرعه على لسان رسوله ، والتعوض عن حقائق الإيمان بخدع الشيطان وحظوظ النفوس الجاهلة .
والعجب أن أربابها ينكرون على أهل الحظوظ . وكل ما هم فيه فحظ ، ولكن حظهم متضمن مخالفة مراد الله ، والإعراض عن دينه ، واعتقاد أنه قربة إلى الله . فأين هذا من حظوظ أصحاب الشهوات ، المعترفين بذمها ، المستغفرين منها ، المقرين بنقصهم وعيبهم ، وأنها منافية للدين ؟
وهؤلاء في حظوظ اتخذوها دينا ، وقدموها على شرع الله ودينه . واغتالوا بها القلوب . واقتطعوها عن طريق الله . فتولد من معقول أولئك ، وآراء الآخرين وأقيستهم الباطلة ، وأذواق هؤلاء خراب العالم ، وفساد الوجود ، وهدم قواعد الدين ، وتفاقم الأمر وكاد لولا أن الله ضمن أنه لا يزال يقوم به من يحفظه ، ويبين معالمه ، ويحميه من كيد من يكيد .
النوع الثالث : الاعتراض على ذلك بالسياسات الجائرة ، التي لأرباب الولايات التي قدموها على حكم الله ورسوله . وحكموا بها بين عباده ، وعطلوا لها وبها شرعه وعدله وحدوده .
فقال الأولون :
إذا تعارض العقل والنقل أيهما يقدم ؟ : قدمنا العقل .
وقال الآخرون : إذا تعارض الأثر والقياس : قدمنا القياس .
وقال أصحاب الذوق والكشف والوجد : إذا تعارض الذوق والوجد والكشف وظاهر الشرع : قدمنا الذوق والوجد والكشف .
[ ص: 70 ] وقال أصحاب السياسة : إذا تعارضت السياسة والشرع ، قدمنا السياسة .
فجعلت كل طائفة قبالة دين الله وشرعه طاغوتا يتحاكمون إليه .
فهؤلاء يقولون : لكم النقل ولنا العقل . والآخرون يقولون : أنتم أصحاب آثار وأخبار ونحن أصحاب أقيسة وآراء وأفكار . وأولئك يقولون : أنتم أرباب الظاهر ، ونحن أهل الحقائق . والآخرون يقولون : لكم الشرع ولنا السياسة . فيا لها من بلية ، عمت فأعمت ، ورزية رمت فأصمت ، وفتنة دعت القلوب فأجابها كل قلب مفتون ، وأهوية عصفت . فصمت منها الآذان ، وعميت منها العيون . عطلت لها - والله - معالم الأحكام . كما نفيت لها صفات ذي الجلال والإكرام . واستند كل قوم إلى ظلم وظلمات آرائهم ، وحكموا على الله وبين عباده بمقالاتهم الفاسدة وأهوائهم . وصار لأجلها الوحي عرضة لكل تحريف وتأويل ، والدين وقفا على كل إفساد وتبديل .
النوع الرابع : الاعتراض على أفعاله وقضائه وقدره . وهذا اعتراض الجهال . وهو ما بين جلي وخفي ، وهو أنواع لا تحصى .
وهو سار في النفوس سريان الحمى في بدن المحموم . ولو تأمل العبد كلامه وأمنيته وإرادته وأحواله ، لرأى ذلك في قلبه عيانا ، فكل نفس معترضة على قدر الله وقسمه وأفعاله ، إلا نفسا قد اطمأنت إليه ، وعرفته حق المعرفة التي يمكن وصول البشر إليها . فتلك حظها التسليم والانقياد . والرضا كل الرضاء .
وأما نقض رعونة التعرض ، فيشير به إلى معنى آخر ، لا تتم المراقبة عنده إلا بنقضه ، وهو إحساس العبد بنفسه وخواطره وأفكاره حال المراقبة ، والحضور مع الله . فإن ذلك تعرض منه ، لحجاب الحق له عن كمال الشهود ؛ لأن بقاء العبد مع مداركه وحواسه ومشاعره ، وأفكاره وخواطره ، عند الحضور والمشاهدة ، هو تعرض للحجاب . فينبغي أن تتخلص مراقبة نظر الحق إليك من هذه الآفات . وذلك يحصل بالاستغراق في الذكر . فتذهل به عن نفسك وعما منك . لتكون بذلك متهيئا مستعدا للفناء عن وجودك ، وعن وجود كل ما سوى المذكور سبحانه .
وهذا التهيؤ والاستعداد : لا يكون إلا بنقض تلك الرعونة . والذكر يوجب الغيبة عن الحس . فمن كان ذاكرا لنظر الحق إليه من إقباله عليه ، ثم أحس بشيء من حديث نفسه وخواطره وأفكاره : فقد تعرض واستدعى عوالم نفسه ، واحتجاب المذكور عنه ؛ لأن حضرة الحق تعالى لا يكون فيها غيره .
[ ص: 71 ] وهذه الدرجة لا يقدر عليها العبد إلا بملكة قوية من الذكر ، وجمع القلب فيه بكليته على الله عز وجل .