فصل
قوله : ولا مشاهدا لأحد . فيكون متزينا بالمراءاة .
هذا فيه تفصيل أيضا . وهو أن
المشاهدة في العمل لغير الله نوعان .
مشاهدة تبعث عليه ، أو تقوي باعثه . فهذه مراءاة خالصة أو مشوبة . كما أن المشاهدة القاطعة عنه أيضا من الآفات والحجب .
ومشاهدة لا تبعث عليه ولا تعين الباعث . بل لا فرق عنده بين وجودها وعدمها . فهذه لا تدخله في التزين بالمراءاة . ولا سيما عند المصلحة الراجحة في هذه المشاهدة :
إما حفظا ورعاية ، كمشاهدة مريض ، أو مشرف على هلكة يخاف وقوعه فيها .
أو مشاهدة عدو يخاف هجومه كصلاة الخوف عند المواجهة .
أو مشاهدة ناظر إليك يريد أن يتعلم منك ، فتكون محسنا إليه بالتعليم ، وإلى نفسك بالإخلاص . أو قصدا منك للاقتداء ، وتعريف الجاهل .
فهذا رياء محمود . والله عند نية القلب وقصده .
فالرياء المذموم أن يكون الباعث قصد التعظيم والمدح ، والرغبة فيما عند من ترائيه ، أو الرهبة منه ، وأما ما ذكرناه - من قصد رعايته ، أو تعليمه ، أو إظهار السنة ، وملاحظة هجوم العدو ، ونحو ذلك - فليس في هذه المشاهد رياء ، بل قد يتصدق العبد رياء مثلا ، وتكون صدقته فوق صدقة صاحب السر .
مثال ذلك : رجل مضرور ، سأل قوما ما هو محتاج إليه . فعلم رجل منهم أنه إن أعطاه سرا ، حيث لا يراه أحد لم يقتد به أحد . ولم يحصل له سوى تلك العطية ، وأنه إن أعطاه جهرا اقتدي به واتبع ، وأنف الحاضرون من تفرده عنهم بالعطية . فجهر له بالعطاء . وكان الباعث له على الجهر إرادة سعة العطاء عليه من الحاضرين . فهذه مراءاة محمودة ؛ حيث لم يكن الباعث عليها قصد التعظيم والثناء . وصاحبها جدير بأن يحصل له مثل أجور أولئك المعطين .
قوله : فإن هذه الأوصاف كلها من شعب عبادة النفس .
يعني أن الخائف يشتغل بحفظ نفسه من العذاب . ففيه عبادة لنفسه ؛ إذ هو متوجه
[ ص: 84 ] إليها . وطالب المثوبة متوجه إلى طلب حظ نفسه . وذلك شعبة من عبوديتها والمشاهد للناس في عبادته : فيه شعبة من عبودية نفسه ، إذ هو طالب لتعظيمهم ، وثنائهم ومدحهم . فهذه شعب من شعب عبودية النفس . والأصل الذي هذه الشعب فروعه هي النفس . فإذا ماتت بالمجاهدة ، والإقبال على الله ، والاشتغال به ، ودوام المراقبة له ماتت هذه الشعب .
فلا جرم أن بناء أمر هذه الطائفة على ترك عبادة النفس .
وقد علمت أن الخوف وطلب الثواب ليس من عبادة النفس في شيء .
نعم ،
التزين بالمراءاة عين عبادة النفس . والكلام في أمر أرفع من هذا . فإن حال المرائي أخس ، ونفسه أسقط ، وهمته أدنى من أن يدخل في شأن الصادقين ويذكر مع الصالحين . والله سبحانه وتعالى أعلم .