فصل
[ ص: 119 ] الدرجة الثانية : إثبات في الأسباب والمسببات .
فإن من نفاها فتوكله مدخول . وهذا عكس ما يظهر في بدوات الرأي : أن إثبات الأسباب يقدح في التوكل ، وأن نفيها تمام التوكل .
فاعلم أن نفاة الأسباب لا يستقيم لهم توكل ألبتة ؛ لأن التوكل من أقوى الأسباب في حصول المتوكل فيه . فهو كالدعاء الذي جعله الله سببا في حصول المدعو به . فإذا اعتقد العبد أن توكله لم ينصبه الله سببا . ولا جعل دعاءه سببا لنيل شيء . فإن المتوكل فيه المدعو بحصوله إن كان قد قدر حصل ، توكل أو لم يتوكل ، دعا أو لم يدع ، وإن لم يقدر لم يحصل ، توكل أيضا أو ترك التوكل .
وصرح هؤلاء أن التوكل والدعاء عبودية محضة . لا فائدة لهما إلا ذلك . ولو ترك العبد التوكل والدعاء ما فاته شيء مما قدر له . ومن غلاتهم من يجعل الدعاء بعدم المؤاخذة على الخطإ والنسيان عديم الفائدة ؛ إذ هو مضمون الحصول .
ورأيت بعض متعمقي هؤلاء - في كتاب له - لا يجوز الدعاء بهذا . وإنما يجوزه تلاوة لا دعاء . قال : لأن الدعاء به يتضمن الشك في وقوعه ؛ لأن الداعي بين الخوف والرجاء . والشك في وقوع ذلك شك في خبر الله . فانظر إلى ما قاد إنكار الأسباب من العظائم ، وتحريم الدعاء بما أثنى الله على عباده وأوليائه بالدعاء به وبطلبه . ولم يزل المسلمون - من عهد نبيهم صلى الله عليه وسلم وإلى الآن - يدعون به في مقامات الدعاء . وهو من أفضل الدعوات .
وجواب هذا الوهم الباطل أن يقال : بقي قسم ثالث غير ما ذكرتم من القسمين لم تذكروه . وهو الواقع . وهو أن يكون قضى بحصول الشيء عند حصول سببه من التوكل والدعاء . فنصب الدعاء والتوكل سببين لحصول المطلوب .
وقضى الله بحصوله إذا فعل العبد سببه . فإذا لم يأت بالسبب امتنع المسبب . وهذا كما قضى بحصول الولد إذا جامع الرجل من يحبها . فإذا لم يجامع لم يخلق الولد .
وقضى بحصول الشبع إذا أكل ، والري إذا شرب . فإذا لم يفعل لم يشبع ولم يرو .
وقضى بحصول الحج والوصول إلى مكة إذا سافر وركب الطريق ، فإذا جلس في بيته لم يصل إلى مكة .
[ ص: 120 ] وقضى بدخول الجنة إذا أسلم ، وأتى بالأعمال الصالحة . فإذا ترك الإسلام ولم يعمل الصالحات لم يدخلها أبدا .
وقضى بإنضاج الطعام بإيقاد النار تحته .
وقضى بطلوع الحبوب التي تزرع بشق الأرض ، وإلقاء البذر فيها . فما لم يأت بذلك لم يحصل إلا الخيبة .
فوزان ما قاله منكرو الأسباب : أن يترك كل من هؤلاء السبب الموصل . ويقول : إن كان قضي لي وسبق في الأزل حصول الولد ، والشبع ، والري ، والحج ونحوها . فلابد أن يصل إلي ، تحركت أو سكنت ، وتزوجت أو تركت ، سافرت أو قعدت . وإن لم يكن قد قضي لي لم يحصل لي أيضا ، فعلت أو تركت .
فهل يعد أحد هذا من جملة العقلاء ؟ وهل البهائم إلا أفقه منه ؟ فإن البهيمة تسعى في السبب بالهداية العامة .
فالتوكل من أعظم الأسباب التي يحصل بها المطلوب ، ويندفع بها المكروه . فمن أنكر الأسباب لم يستقم منه التوكل . ولكن من تمام التوكل عدم الركون إلى الأسباب ، وقطع علاقة القلب بها ؛ فيكون حال قلبه قيامه بالله لا بها . وحال بدنه قيامه بها .
فالأسباب محل حكمة الله وأمره ودينه . والتوكل متعلق بربوبيته وقضائه وقدره . فلا تقوم عبودية الأسباب إلا على ساق التوكل . ولا يقوم ساق التوكل إلا على قدم العبودية . والله سبحانه وتعالى أعلم .