فصل في بيان اشتمال الفاتحة على الشفاءين شفاء القلوب وشفاء الأبدان
فأما اشتمالها على
شفاء القلوب : فإنها اشتملت عليه أتم اشتمال ، فإن مدار اعتلال القلوب وأسقامها على أصلين : فساد العلم ، وفساد القصد .
ويترتب عليهما داءان قاتلان ، وهما الضلال والغضب ، فالضلال نتيجة فساد العلم ، والغضب نتيجة فساد القصد ، وهذان المرضان هما ملاك أمراض القلوب جميعها ، فهداية الصراط المستقيم تتضمن الشفاء من مرض الضلال ، ولذلك كان سؤال هذه الهداية أفرض دعاء على كل عبد ، وأوجبه عليه كل يوم وليلة في كل صلاة ، لشدة ضرورته وفاقته إلى الهداية المطلوبة ، ولا يقوم غير هذا السؤال مقامه .
والتحقق ب
إياك نعبد وإياك نستعين علما ومعرفة ، وعملا وحالا يتضمن الشفاء من مرض فساد القلب والقصد ، فإن فساد القصد يتعلق بالغايات والوسائل ، فمن طلب غاية منقطعة مضمحلة فانية ، وتوسل إليها بأنواع الوسائل الموصلة إليها كان كلا نوعي
[ ص: 77 ] قصده فاسدا ، وهذا شأن كل من كان غاية مطلوبه غير الله وعبوديته من المشركين ، ومتبعي الشهوات ، الذين لا غاية لهم وراءها ، وأصحاب الرياسات المتبعين لإقامة رياستهم بأي طريق كان من حق أو باطل ، فإذا جاء الحق معارضا في طريق رياستهم طحنوه وداسوه بأرجلهم ، فإن عجزوا عن ذلك دفعوه دفع الصائل ، فإن عجزوا عن ذلك حبسوه في الطريق ، وحادوا عنه إلى طريق أخرى ، وهم مستعدون لدفعه بحسب الإمكان ، فإذا لم يجدوا منه بدا أعطوه السكة والخطبة وعزلوه عن التصرف والحكم والتنفيذ ، وإن جاء الحق ناصرا لهم وكان لهم صالوا به وجالوا ، وأتوا إليه مذعنين ، لا لأنه حق ، بل لموافقته غرضهم وأهواءهم ، وانتصارهم به
وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون .
والمقصود : أن قصد هؤلاء فاسد في غاياتهم ووسائلهم ، وهؤلاء إذا بطلت الغايات التي طلبوها ، واضمحلت وفنيت ، حصلوا على أعظم الخسران والحسرات ، وهم أعظم الناس ندامة وتحسرا إذا حق الحق وبطل الباطل ، وتقطعت بهم أسباب الوصل التي كانت بينهم ، وتيقنوا انقطاعهم عن ركب الفلاح والسعادة ، وهذا يظهر كثيرا في الدنيا ، ويظهر أقوى من ذلك عند الرحيل منها والقدوم على الله ، ويشتد ظهوره وتحققه في البرزخ ، وينكشف كل الانكشاف يوم اللقاء ، إذا حقت الحقائق ، وفاز المحقون وخسر المبطلون ، وعلموا أنهم كانوا كاذبين ، وكانوا مخدوعين مغرورين ، فياله هناك من علم لا ينفع عالمه ، ويقين لا ينجي مستيقنه .
وكذلك من طلب الغاية العليا والمطلب الأسمى ، ولكن لم يتوسل إليه بالوسيلة الموصلة له وإليه ، بل توسل إليه بوسيلة ظنها موصلة إليه ، وهي من أعظم القواطع عنه ، فحاله أيضا كحال هذا ، وكلاهما فاسد القصد ، ولا شفاء من هذا المرض إلا بدواء "
إياك نعبد وإياك نستعين " .
فإن هذا الدواء مركب من ستة أجزاء ( 1 ) عبودية الله لا غيره ( 2 ) بأمره وشرعه ( 3 ) لا بالهوى ( 4 ) ولا بآراء الرجال وأوضاعهم ، ورسومهم ، وأفكارهم ( 5 ) بالاستعانة على عبوديته به ( 6 ) لا بنفس العبد وقوته وحوله ولا بغيره .
[ ص: 78 ] فهذه هي أجزاء
إياك نعبد وإياك نستعين فإذا ركبها الطبيب اللطيف ، العالم بالمرض ، واستعملها المريض ، حصل بها الشفاء التام ، وما نقص من الشفاء فهو لفوات جزء من أجزائها ، أو اثنين أو أكثر .
ثم إن
القلب يعرض له مرضان عظيمان ، إن لم يتداركهما العبد تراميا به إلى التلف ولا بد ، وهما الرياء ، والكبر ، فدواء الرياء ب
إياك نعبد ودواء الكبر ب
إياك نستعين .
وكثيرا ما كنت أسمع شيخ الإسلام
ابن تيمية قدس الله روحه يقول :
إياك نعبد تدفع الرياء
وإياك نستعين تدفع الكبرياء .
فإذا عوفي من مرض الرياء ب
إياك نعبد ومن مرض الكبرياء والعجب ب
إياك نستعين ومن مرض الضلال والجهل ب
اهدنا الصراط المستقيم عوفي من أمراضه وأسقامه ، ورفل في أثواب العافية ، وتمت عليه النعمة ، وكان من المنعم عليهم غير المغضوب عليهم وهم أهل فساد القصد ، الذين عرفوا الحق وعدلوا عنه والضالين وهم أهل فساد العلم ، الذين جهلوا الحق ولم يعرفوه .
وحق لسورة تشتمل على هذين الشفاءين أن يستشفى بها من كل مرض ، ولهذا لما اشتملت على هذا الشفاء الذي هو أعظم الشفاءين ، كان حصول الشفاء الأدنى بها أولى ، كما سنبينه ، فلا شيء أشفى للقلوب التي عقلت عن الله وكلامه ، وفهمت عنه فهما خاصا ، اختصها به من معنى هذه السورة .
وسنبين إن شاء الله تعالى تضمنها للرد على جميع أهل البدع بأوضح البيان وأحسن الطرق .