فصل
قال : الدرجة الثانية : تسليم العلم إلى الحال : والقصد إلى الكشف ، والرسم إلى الحقيقة .
أما تسليم العلم إلى الحال فليس المراد منه : تحكيم الحال على العلم ، حاشا الشيخ من ذلك ، وإنما أراد :
الانتقال من الوقوف عند صور العلم الظاهرة إلى معانيها وحقائقها الباطنة ، وثمراتها المقصودة منها ، مثل الانتقال من محض التقليد والخبر إلى العيان واليقين . حتى كأنه يرى ويشاهد ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم ، كما قال تعالى : (
ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ) . وقال تعالى : (
أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى ) . وينتقل من الحجاب إلى الكشف ، فينتقل من العلم إلى اليقين ، ومن اليقين إلى عين اليقين . ومن علم الإيمان إلى ذوق طعم الإيمان ووجدان حلاوته . فإن هذا قدر زائد على مجرد علمه . ومن علم التوكل إلى حاله ، وأشباه ذلك .
فيسلم العلم الصحيح إلى الحال الصحيح . فإن سلطان الحال أقوى من سلطان العلم . فإذا كان الحال مخالفا للعلم فهو ملك ظالم . فليخرج عليه بسيف العلم ، وليحكمه فيه .
وأما تسليم القصد إلى الكشف فليس معناه : أن يترك القصد عن معاينة
[ ص: 150 ] الكشف . فإنه متى ترك القصد خلع ربقة العبودية من عنقه . ولكن يجعل قصده سائرا طالبا لكشفه يؤمه . فإذا وصل إليه سلمه إليه . وصار الحكم للكشف ؛ إذ القصد آلة ووسيلة إليه . فإن كان كشفا صحيحا مطابقا للحق في نفسه : كشف له عن آفات القصد ، ومفسداته ، ومصححاته وعيوبه . فأقبل على تصحيحه بنور الكشف . لا أن صاحب القصد ترك القصد لأجل الكشف فهذا سير أهل الإلحاد ، الناكبين عن سبيل الحق والرشاد .
وأما ترك الرسم إلى الحقيقة فإنه يشير به إلى الفناء . فإن
من جملة تسليم صاحب الفناء : تسليم ذاته ليفنى في شهود الحقيقة . فإن ذات العبد هي رسم . والرسم تفنيه الحقيقة ، كما يفني النور الظلمة ؛ لأن عند أصحاب الفناء : أن الحق سبحانه لا يراه سواه . ولا يشاهده غيره . لا بمعنى الاتحاد ، ولكن بمعنى : أنه لا يشاهده العبد حتى يفنى عن إنيته ورسمه ، وجميع عوالمه ، فيفنى من لم يكن . ويبقى من لم يزل . هذا كإجماع من الطائفة ، بل هو إجماع منهم .