فصل
وليس من
شرط الرضا ألا يحس بالألم والمكاره
وليس من شرط الرضا ألا يحس بالألم والمكاره . بل ألا يعترض على الحكم ولا يتسخطه . ولهذا أشكل على بعض الناس
الرضا بالمكروه ، وطعنوا فيه . وقالوا : هذا ممتنع على الطبيعة . وإنما هو الصبر ، وإلا فكيف يجتمع الرضا والكراهة ؟ وهما ضدان .
والصواب : أنه لا تناقض بينهما ، وأن وجود التألم وكراهة النفس له لا ينافي الرضا ، كرضا المريض بشرب الدواء الكريه ، ورضا الصائم في اليوم الشديد الحر بما يناله من ألم الجوع والظمأ ، ورضا المجاهد بما يحصل له في سبيل الله من ألم الجراح ، وغيرها .
وطريق الرضا طريق مختصرة ، قريبة جدا ، موصلة إلى أجل غاية . ولكن فيها مشقة . ومع هذا فليست مشقتها بأصعب من مشقة طريق المجاهدة . ولا فيها من العقبات والمفاوز ما فيها . وإنما عقبتها همة عالية . ونفس زكية ، وتوطين النفس على كل ما يرد عليها من الله .
ويسهل ذلك على العبد : علمه بضعفه وعجزه ورحمته به ، وشفقته عليه ، وبره به ، فإذا شهد هذا وهذا ، ولم يطرح نفسه بين يديه ، ويرضى به وعنه ، وتنجذب دواعي حبه ورضاه كلها إليه : فنفسه نفس مطرودة عن الله ، بعيدة عنه . ليست مؤهلة لقربه وموالاته ، أو نفس ممتحنة مبتلاة بأصناف البلايا والمحن .
[ ص: 174 ] فطريق الرضا والمحبة : تسير العبد وهو مستلق على فراشه . فيصبح أمام الركب بمراحل .
وثمرة الرضا : الفرح والسرور بالرب تبارك وتعالى .
ورأيت شيخ الإسلام
ابن تيمية - قدس الله روحه - في المنام . وكأني ذكرت له شيئا من أعمال القلب . وأخذت في تعظيمه ومنفعته - لا أذكره الآن - فقال : أما أنا فطريقتي : الفرح بالله ، والسرور به ، أو نحو هذا من العبارة .
وهكذا كانت حاله في الحياة . يبدو ذلك على ظاهره . وينادي به عليه حاله . لكن قد قال
الواسطي : استعمل الرضا جهدك . ولا تدع الرضا يستعملك ، فتكون محجوبا بلذته ورؤيته عن حقيقة ما تطالع .
وهذا الذي أشار إليه
الواسطي هو عقبة عظيمة عند القوم ، ومقطع لهم . فإن مساكنة الأحوال ، والسكون إليها ، والوقوف عندها استلذاذا ومحبة : حجاب بينهم وبين ربهم بحظوظهم عن مطالعة حقوق محبوبهم ومعبودهم . وهي عقبة لا يحوزها إلا أولو العزائم .
وكان
الواسطي كثير التحذير من هذه العقبة . شديد التنبيه عليها .
ومن كلامه : إياكم واستحلاء الطاعات . فإنها سموم قاتلة .
فهذا معنى قوله : استعمل الرضا جهدك . ولا تدع الرضا يستعملك أي لا يكون عملك لأجل حصول حلاوة الرضا ، بحيث تكون هي الباعثة لك عليه . بل اجعله آلة لك وسببا موصلا إلى قصدك ومطلوبك . فتكون مستعملا له ، لا أنه مستعمل لك .
وهذا لا يختص بالرضا ، بل هو عام في جميع الأحوال والمقامات القلبية التي يسكن إليها القلب ، حتى إنه أيضا لا يكون عاملا على المحبة لأجل المحبة ، وما فيها من اللذة والسرور والنعيم به . بل يستعمل المحبة في مرضاة المحبوب ، لا يقف عندها . فهذا من علل المحبة .
[ ص: 175 ] وقال
ذو النون : ثلاثة من
أعلام الرضا : ترك الاختيار قبل القضاء ، وفقدان المرارة بعد القضاء . وهيجان الحب في حشو البلاء .
وقيل
للحسين بن علي رضي الله عنهما : إن
أبا ذر رضي الله عنه يقول : الفقر أحب إلي من الغنى ، والسقم أحب إلي من الصحة . فقال : رحم الله
أبا ذر . أما أنا ، فأقول : من اتكل على حسن اختيار الله له لم يتمن غير ما اختار الله له .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14919الفضيل بن عياض ل
nindex.php?page=showalam&ids=15531بشر الحافي : الرضا أفضل من الزهد في الدنيا . لأن الراضي لا يتمنى فوق منزلته .
وسئل
أبو عثمان عن قول النبي صلى الله عليه وسلم أسألك الرضا بعد القضاء فقال : لأن الرضا قبل القضا عزم على الرضا . والرضا بعد القضا هو الرضا .
وقيل : الرضا ارتفاع الجزع في أي حكم كان .
وقيل : رفع الاختيار . وقيل : استقبال الأحكام بالفرح .
وقيل : سكون القلب تحت مجاري الأحكام .
وقيل : نظر القلب إلى قديم اختيار الله للعبد . وهو ترك السخط .
وكتب
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب إلى
أبي موسى رضي الله عنهما : أما بعد ، فإن الخير كله في الرضا ، فإن استطعت أن ترضى وإلا فاصبر .
وقال
أبو علي الدقاق : الإنسان خزف . وليس للخزف من الخطر ما يعارض فيه حكم الحق تعالى .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=12079أبو عثمان الحيري : منذ أربعين سنة ما أقامني الله في حال فكرهته ، وما نقلني إلى غيره فسخطته .
والرضا ثلاثة أقسام : رضا العوام بما قسمه الله وأعطاه . ورضا الخواص بما قدره وقضاه . ورضا خواص الخواص به بدلا من كل ما سواه .