[ ص: 82 ] فصل
وأما المفصل : فبمعرفة المذاهب الباطلة ، واشتمال كلمات الفاتحة على إبطالها ، فنقول :
الناس قسمان : مقر بالحق تعالى ، وجاحد له ،
فتضمنت الفاتحة إثبات الخالق تعالى ، والرد على من جحده ، بإثبات ربوبيته تعالى للعالمين .
وتأمل حال العالم كله ، علويه وسفليه ، بجميع أجزائه : تجده شاهدا بإثبات صانعه وفاطره ومليكه ، فإنكار صانعه وجحده في العقول والفطر بمنزلة إنكار العلم وجحده ، لا فرق بينهما ، بل دلالة الخالق على المخلوق ، والفعال على الفعل ، والصانع على أحوال المصنوع عند العقول الزكية المشرقة العلوية ، والفطر الصحيحة أظهر من العكس .
فالعارفون
أرباب البصائر يستدلون بالله على أفعاله وصنعه ، إذا استدل الناس بصنعه وأفعاله عليه ، ولا ريب أنهما طريقان صحيحان ، كل منهما حق ، والقرآن مشتمل عليهما .
فأما الاستدلال بالصنعة فكثير ، وأما الاستدلال بالصانع فله شأن ، وهو الذي أشارت إليه الرسل بقولهم لأممهم
أفي الله شك أي أيشك في الله حتى يطلب إقامة الدليل على وجوده ؟ وأي دليل أصح وأظهر من هذا المدلول ؟ فكيف يستدل على الأظهر بالأخفى ؟ ثم نبهوا على الدليل بقولهم
فاطر السماوات والأرض .
وسمعت شيخ الإسلام
تقي الدين ابن تيمية قدس الله روحه يقول : كيف يطلب الدليل على من هو دليل على كل شيء ؟ وكان كثيرا ما يتمثل بهذا البيت :
وليس يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل
[ ص: 83 ] ومعلوم أن وجود الرب تعالى أظهر للعقول والفطر من وجود النهار ، ومن لم ير ذلك في عقله وفطرته فليتهمهما .
وإذا بطل قول هؤلاء بطل قول أهل الإلحاد ، القائلين
بوحدة الوجود ، وأنه ما ثم وجود قديم خالق ووجود حادث مخلوق ، بل وجود هذا العالم هو عين وجود الله ، وهو حقيقة وجود هذا العالم ، فليس عند القوم رب وعبد ، ولا مالك ومملوك ، ولا راحم ومرحوم ، ولا عابد ومعبود ، ولا مستعين ومستعان به ، ولا هاد ولا مهدي ، ولا منعم ولا منعم عليه ، ولا غضبان ومغضوب عليه ، بل الرب هو نفس العبد وحقيقته ، والمالك هو عين المملوك ، والراحم هو عين المرحوم ، والعابد هو نفس المعبود ، وإنما التغاير أمر اعتباري بحسب مظاهر الذات وتجلياتها ، فتظهر تارة في صورة معبود ، كما ظهرت في صورة فرعون ، وفي صورة عبد ، كما ظهرت في صورة العبيد ، وفي صورة هاد ، كما في صورة الأنبياء والرسل والعلماء ، والكل من عين واحدة ، بل هو العين الواحدة ، فحقيقة العابد ووجوده أو أنيته : هي حقيقة المعبود ووجوده وأنيته .
والفاتحة من أولها إلى آخرها تبين بطلان قول هؤلاء الملاحدة وضلالهم .