فصل
قال الدرجة الثانية :
أن لا يتمنى الحياة إلا للحق . ولا يشهد من نفسه إلا أثر النقصان . ولا يلتفت إلى ترفيه الرخص .
أي لا يحب أن يعيش إلا ليشبع من رضا محبوبه . ويقوم بعبوديته . ويستكثر من الأسباب التي تقربه إليه ، وتدنيه منه . لا لعلة من علل الدنيا . ولا لشهوة من شهواتها ، كما قال
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب رضي الله عنه : لولا ثلاث لما أحببت البقاء : لولا أن أحمل على جياد الخيل في سبيل الله ، ومكابدة الليل ، ومجالسة أقوام ينتقون أطايب الكلام كما ينتقى أطايب التمر .
يريد رضي الله عنه : الجهاد ، والصلاة ، والعلم النافع . وهذه درجات الفضائل . وأهلها هم أهل الزلفى ، والدرجات العليا .
وقال
معاذ رضي الله عنه عند موته : اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب البقاء لجري الأنهار ، ولا لغرس الأشجار ، ولا لنكح الأزواج ، ولكن لظمأ الهواجر ، ومكابدة الليل ، ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر .
وقوله : ولا يشهد من نفسه إلا أثر النقصان .
يعني لا يرى نفسه إلا مقصرا . والموجب له هذه الرؤية : استعظام مطلوبه ، واستصغار نفسه ، ومعرفته بعيوبها ، وقلة زاده في عينه . فمن عرف الله وعرف نفسه : لم ير نفسه إلا بعين النقصان .
وأما قوله : ولا يلتفت إلى ترفيه الرخص .
فلأنه - لكمال صدقه ، وقوة إرادته ، وطلبه للتقدم - يحمل نفسه على العزائم . ولا يلتفت إلى الرفاهية التي في الرخص .
وهذا لا بد فيه من التفصيل . فإن
الصادق يعمل على رضا الحق تعالى ومحابه . فإذا كانت الرخص أحب إليه تعالى من العزائم : كان التفاته إلى ترفيهها . وهو عين صدقه . فإذا أفطر في السفر ، وقصر وجمع بين الصلاتين عند الحاجة إليه . وخفف الصلاة
[ ص: 270 ] عند الشغل ، ونحو ذلك من الرخص التي يحب الله تعالى أن يؤخذ بها : فهذا الالتفات إلى ترفيهها لا ينافي الصدق .
بل هاهنا نكتة . وهي أنه فرق بين أن يكون التفاته إليها ترفها وراحة . وأن يكون متابعة وموافقة . ومع هذا فالالتفات إليها ترفها وراحة لا ينافي الصدق . فإن هذا هو المقصود منها . وفيه شهود نعمة الله على العبد ، وتعبده باسمه البر ، اللطيف ، المحسن ، الرفيق فإنه رفيق يحب الرفق . وفي الصحيح :
nindex.php?page=hadith&LINKID=980467ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما . ما لم يكن إثما لما فيه من روح التعبد باسم : الرفيق ، اللطيف وإجمام القلب به لعبودية أخرى . فإن القلب لا يزال يتنقل في منازل العبودية . فإذا أخذ بترفيه رخصة محبوبه : استعد بها لعبودية أخرى . وقد تقطعه عزيمتها عن عبودية هي أحب إلى الله منها ، كالصائم في السفر الذي ينقطع عن خدمة أصحابه ، والمفطر الذي يضرب الأخبية ، ويسقي الركاب ، ويضم المتاع . ولهذا قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم
nindex.php?page=hadith&LINKID=980468ذهب المفطرون اليوم بالأجر .
أما الرخص التأويلية ، المستندة إلى اختلاف المذاهب ، والآراء التي تصيب وتخطئ : فالأخذ بها عندهم عين البطالة مناف للصدق .