[ ص: 334 ] فصل منزلة المروءة
ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة المروءة .
المروءة فعولة من لفظ المرء ، كالفتوة من الفتى ، والإنسانية من الإنسان . ولهذا كان حقيقتها : اتصاف النفس بصفات الإنسان التي فارق بها الحيوان البهيم ، والشيطان الرجيم . فإن في النفس ثلاثة دواع متجاذبة : داع يدعوها إلى الإنصاف بأخلاق الشيطان : من الكبر ، والحسد ، والعلو ، والبغي ، والشر ، والأذى ، والفساد ، والغش .
وداع يدعوها إلى أخلاق الحيوان . وهو داعي الشهوة .
وداع يدعوها إلى أخلاق الملك : من الإحسان ، والنصح ، والبر ، والعلم ، والطاعة .
فحقيقة المروءة : بغض ذينك الداعيين ، وإجابة الداعي الثالث . وقلة المروءة وعدمها : هو الاسترسال مع ذينك الداعيين ، والتوجه لدعوتهما أين كانت .
فالإنسانية ، والمروءة ، والفتوة : كلها في عصيان الداعيين ، وإجابة الداعي الثالث . كما قال بعض السلف : خلق الله الملائكة عقولا بلا شهوة . وخلق البهائم شهوة بلا عقول . وخلق ابن آدم ، وركب فيه العقل والشهوة . فمن غلب عقله شهوته : التحق بالملائكة . ومن غلبت شهوته عقله : التحق بالبهائم .
ولهذا قيل في حد المروءة : إنها غلبة العقل للشهوة .
وقال الفقهاء في حدها : هي استعمال ما يجمل العبد ويزينه ، وترك ما يدنسه ويشينه .
وقيل : المروءة استعمال كل خلق حسن . واجتناب كل خلق قبيح .
وحقيقة المروءة تجنب الدنايا والرذائل ، من الأقوال ، والأخلاق ، والأعمال .
فمروءة اللسان : حلاوته وطيبه ولينه ، واجتناء الثمار منه بسهولة ويسر .
ومروءة الخلق : سعته وبسطه للحبيب والبغيض .
[ ص: 335 ] ومروءة المال : الإصابة ببذله مواقعه المحمودة عقلا وعرفا وشرعا .
ومروءة الجاه : بذله للمحتاج إليه .
ومروءة الإحسان : تعجيله وتيسيره ، وتوفيره ، وعدم رؤيته حال وقوعه ، ونسيانه بعد وقوعه . فهذه مروءة البذل .
وأما
مروءة الترك : فترك الخصام ، والمعاتبة ، والمطالبة والمماراة ، والإغضاء عن عيب ما يأخذه من حقك . وترك الاستقصاء في طلبه . والتغافل عن عثرات الناس ، وإشعارهم أنك لا تعلم لأحد منهم عثرة ، والتوقير للكبير ، وحفظ حرمة النظير ، ورعاية أدب الصغير ، وهي على ثلاث درجات .
الدرجة الأولى :
مروءة المرء مع نفسه ، وهي أن يحملها قسرا على ما يجمل ويزين . وترك ما يدنس ويشين ، ليصير لها ملكة في العلانية . فمن أراد شيئا في سره وخلوته : ملكه في جهره وعلانيته . فلا يكشف عورته في الخلوة ، ولا يتجشأ بصوت مزعج ما وجد إلى خلافه سبيلا . ولا يخرج الريح بصوت وهو يقدر على خلافه ، ولا يجشع وينهم عند أكله وحده .
وبالجملة : فلا يفعل خاليا ما يستحيي من فعله في الملأ ، إلا ما لا يحظره الشرع والعقل . ولا يكون إلا في الخلوة ، كالجماع والتخلي ونحو ذلك .
الدرجة الثانية :
المروءة مع الخلق ، بأن يستعمل معهم شروط الأدب والحياء ، والخلق الجميل ، ولا يظهر لهم ما يكرهه هو من غيره لنفسه . وليتخذ الناس مرآة لنفسه . فكل ما كرهه ونفر عنه ، من قول أو فعل أو خلق ، فليتجنبه . وما أحبه من ذلك واستحسنه فليفعله .
وصاحب هذه البصيرة ينتفع بكل من خالطه وصاحبه من كامل وناقص ، وسيئ الخلق وحسنه . وعديم المروءة وغزيرها .
وكثير من الناس : يتعلم المروءة ، ومكارم الأخلاق من الموصوفين بأضدادها كما روي عن بعض الأكابر : أنه كان له مملوك سيئ الخلق ، فظ غليظ ، لا يناسبه . فسئل عن ذلك ؟ فقال : أدرس عليه مكارم الأخلاق .
وهذا يكون بمعرفة مكارم الأخلاق في ضد أخلاقه . ويكون بتمرين النفس على مصاحبته ومعاشرته ، والصبر عليه .
الدرجة الثالثة :
المروءة مع الحق سبحانه ، بالاستحياء من نظره إليك ، واطلاعه عليك في كل لحظة ونفس ، وإصلاح عيوب نفسك جهد الإمكان . فإنه قد اشتراها
[ ص: 336 ] منك . وأنت ساع في تسليم المبيع ، وتقاضي الثمن . وليس من المروءة : تسليمه على ما فيه من العيوب ، وتقاضي الثمن كاملا . أو رؤية منته في هذا الإصلاح ، وأنه هو المتولي له ، لا أنت . فيغنيك الحياء منه عن رسوم الطبيعة . والاشتغال بإصلاح عيوب نفسك عن التفاتك إلى عيب غيرك ، وشهود الحقيقة عن رؤية فعلك وصلاحك .
وكل ما تقدم في منزلة الخلق والفتوة فإنه بعينه في هذه المسألة . فلذلك اقتصرنا منها على هذا القدر . و صاحب " المنازل " - رحمه الله - استغنى بما ذكر في الفتوة . والله أعلم .