فصل
قال :
الدرجة الثانية : الانبساط مع الحق . وهو أن لا يحبسك خوف ، ولا يحجبك رجاء . ولا يحول بينك وبينه
آدم ولا
حواء .
[ ص: 339 ] يريد : أن لا يمنعك عن الانبساط إليه خوف . فإن مقام الخوف لا يجامع مقام الانبساط . والخوف من أحكام اسم القابض والانبساط من أحكام اسم الباسط .
والبسط عندهم : من مشاهدة أوصاف الجمال والإحسان والتودد والرحمة .
والقبض من مشاهدة أوصاف الجلال والعظمة والكبرياء والعدل والانتقام .
وبعضهم يجعل الخوف من منازل العامة . والانبساط من منازل الخاصة . إذ الانبساط لا يكون إلا للعارفين أرباب التجليات . وليس في حق هؤلاء خوف .
وأما قوله : ولا يحجبك رجاء ؛ فلأن الراجي لطلبه حاجته تحتاج إلى التملق والتذلل . فيحجبه رجاؤه وطمعه فيما يناله من المعظم عن انبساطه . كالسائل للغني . فإن سؤاله وطمعه يمنعه من انبساطه إليه . فإذا غاب عن ذلك انبسط .
وقوله : ولا يحول بينك وبينه
آدم ولا
حواء . استعارة .
والمعنى : أنك تراه أقرب إليك من أبيك وأمك ، وأرحم بك منهما ، وأشفق عليك . فلا توسط بينك وبينه أبا خرجت من صلبه ، ولا أما ركضت في رحمها .
وفيه معنى آخر . وهو الإشارة إلى أنك تشاهد خلقه لك بلا واسطة . كما خلق
آدم وحواء . فتشاهد خلقه لك بيده ، ونفخه فيك من روحه . وإسجاد ملائكته لك . وإبعاد إبليس حيث لم يسجد لك . وأنت في صلب أبيك
آدم .
وهذا يوجب لك شهود الانطواء عن الانبساط . وهو رحب الهمة لانطواء انبساط العبد في بسط الحق جل جلاله .
ومعنى هذا : أن لا يرى العبد لنفسه انبساطا ولا انقباضا . بل ينطوي انبساطه ويضمحل في صفة البسط التي للحق جل جلاله . وهذا شهود معنى اسم الباسط عز وجل .
فهذا تقدير كلامه ، على أن فيه مقبولا ومردودا . ولا معنى لتعلق هذه الصفة بالرب تعالى ألبتة ، وأما تعلقها بالخلق : فصحيح .
نعم هاهنا مقام اشتباه وفرق . وهو أن المحب الصادق : لا بد أن يقارنه أحيانا فرح بمحبوبه . ويشتد فرحه به . ويرى مواقع لطفه به ، وبره به ، وإحسانه إليه وحسن دفاعه عنه ، والتلطف في إيصاله المنافع والمسار والمبار إليه بكل طريق ، ودفع المضار والمكاره عنه
[ ص: 340 ] بكل طريق . وكلما فتش عن ذلك اطلع منه على أمور عجيبة . لا يقف وهمه ومقتبسه لها على غاية . بل ما خفي عنه منها أعظم . فيداخله من شهود هذه الحالة نوع إدلال وانبساط . وشهود نفسه في منزلة المراد المحبوب . ولا يسلم من آفات ذلك إلا خواص العارفين .
وصاحب هذا المقام نهايته : أن يكون معذورا ، وما يبدو منه من أحكامه بالشطحات أليق منه بأحكام العبودية .
ولم يكن لأحد من البشر في منزلة القرب والكرامة والحظوة والجاه ما لرسول الله صلى الله عليه وسلم من ربه تبارك وتعالى . وكان أشد الخلق لله خشية وتعظيما وإجلالا . وحاله كلها مع الله تشهد بتكميل العبودية . وأين درجة الانبساط من المخلوق من التراب ، إلى الانبساط مع رب الأرباب ؟
نعم لا ينكر فرح القلب بالرب تعالى وسروره به ، وابتهاجه وقرة عينه ، ونعيمه بحبه ، والشوق إلى لقائه : إلا كثيف الحجاب ، حجري الطباع . فلا بهذا الميعان . ولا بذاك الجمود والقسوة .
وبهذا ومثله طرق المتأخرون من القوم السبيل إليهم . وفتحوا للمقالة فيهم بابا ، فالعبد الخائف الوجل المشفق الذليل بين يدي الله عز وجل ، المنكس الرأس بين يديه ، الذي لا يرضى لربه شيئا من عمله : هو أحوج شيء إلى عفوه ورحمته . ولا يرى نفسه في نعمته إلا طفيليا . ولا يرى نفسه محسنا قط . وإن صدر منه إحسان : علم أنه ليس من نفسه ، ولا بها ولا فيها . وإنما هو محض منة الله عليه ، وصدقته عليه . فما لهذا والانبساط ؟
نعم انبساطه انبساط فرح وسرور ورضا وابتهاج . فإن كان المراد بالانبساط هذا : فلا ننكره . لكنه غير الاسترسال المذكور ، والاستشهاد عليه بالآية يبين مراده . والله أعلم .