فصل
قال صاحب " المنازل " رحمه الله :
باب الإرادة : قال الله تعالى :
قل كل يعمل على شاكلته .
في تصديره الباب بهذه الآية دلالة على عظم قدره . وجلالة محله من هذا العلم . فإن معنى الآية : كل يعمل على كل ما يشاكله ، ويناسبه ، ويليق به . فالفاجر يعمل على ما يليق به . وكذلك الكافر والمنافق ، ومريد الدنيا وجيفتها عامل على ما يناسبه ، ولا يليق به سواه . ومحب الصور : عامل على ما يناسبه ويليق به .
فكل امرئ يهفو إلى ما يحبه وكل امرئ يصبو إلى ما يناسبه فالمريد الصادق المحب لله : يعمل ما هو اللائق به والمناسب له . فهو يعمل على شاكلة إرادته . وما هو الأليق به ، والأنسب لها .
قال : الإرادة من قوانين هذا العلم ، وجوامع أبنيته . وهي الإجابة لدواعي الحقيقة ، طوعا أو كرها .
[ ص: 352 ] يريد : أن هذا
العلم مبني على الإرادة . فهي أساسه ، ومجمع بنائه . وهو مشتمل على تفاصيل أحكام الإرادة . وهي حركة القلب . ولهذا سمي علم الباطن كما أن علم الفقه يشتمل على تفاصيل أحكام الجوارح . ولهذا سموه علم الظاهر
فهاتان حركتان اختياريتان . وللعبد حركة طبيعية اضطرارية . فالعلم المشتمل على تفاصيلها ، وأحكامها : هو علم الطب . فهذه العلوم الثلاثة : هي الكفيلة بمعرفة حركات النفس والقلب . وحركات اللسان والجوارح ، وحركات الطبيعة .
فالطبيب : ينظر في تلك الحركات من جهة تأثر البدن عنها صحة واعتلالا ، وفي لوازم ذلك ومتعلقاته .
والفقيه : ينظر في تلك الحركات من جهة موافقتها لأمر الشرع ، ونهيه وإذنه ، وكراهته ، ومتعلقات ذلك .
والصوفي : ينظر في تلك الحركات من جهة كونها موصلة له إلى مراده . أو قاطعة عنه ، ومفسدة لقلبه ، أو مصححة له .
وأما قوله : وهي الإجابة لداعي الحقيقية
فالإجابة هي الانقياد ، والإذعان . والحقيقة عندهم : مشاهدة الربوبية . والشريعة التزام العبودية . فالشريعة : أن تعبده . والحقيقة : أن تشهده . فالشريعة : قيامك بأمره . والحقيقة : شهودك لوصفه . وداعي الحقيقة : هو صحة المعرفة . فإن من عرف الله أحبه ولا بد .
ولا بد في هذه الإجابة من ثلاثة أشياء : نفس مستعدة قابلة . لا تعوز إلا الداعي . ودعوة مستمعة ، وتخلية الطريق من المانع .
فما انقطع من انقطع إلا من جهة من هذه الجهات الثلاث .
وقوله : طوعا أو كرها يشير إلى المجذوب ، المختطف من نفسه ، والسالك إرادة واختيارا ومجاهدة .