فصل في بيان تضمنها للرد على منكري النبوات وذلك من وجوه :
أحدها :
إثبات حمده التام ، فإنه يقتضي كمال حكمته ، وأن لا يخلق خلقه عبثا ، ولا يتركهم سدى ، لا يؤمرون ولا ينهون ، ولذلك نزه الله نفسه عن هذا في غير موضع من كتابه ، وأخبر أن
من أنكر الرسالة والنبوة وأن يكون ما أنزل على بشر من شيء فإنه ما عرفه حق معرفته ، ولا عظمه حق تعظيمه ، ولا قدره حق قدره ، بل نسبه إلى ما لا يليق به ، ويأباه حمده ومجده .
فمن أعطى الحمد حقه علما ومعرفة وبصيرة استنبط منه " أشهد أن
محمدا رسول الله " كما يستنبط منه أشهد أن لا إله إلا الله ، وعلم قطعا أن تعطيل النبوات في منافاته للحمد ، كتعطيل صفات الكمال ، وكإثبات الشركاء والأنداد .
الثاني : إلهيته ، وكونه إلها ، فإن ذلك مستلزم لكونه معبودا مطاعا ، ولا سبيل إلى معرفة ما يعبد به ويطاع إلا من جهة رسله .
الثالث : كونه ربا ، فإن الربوبية تقتضي أمر العباد ونهيهم ، وجزاء محسنهم
[ ص: 91 ] بإحسانه ، ومسيئهم بإساءته ، هذا حقيقة الربوبية ، وذلك لا يتم إلا بالرسالة والنبوة .
الرابع : كونه رحمانا رحيما ، فإن من كمال رحمته أن يعرف عباده نفسه وصفاته ويدلهم على ما يقربهم إليه ، ويباعدهم منه ، ويثيبهم على طاعته ، ويجزيهم بالحسنى ، وذلك لا يتم إلا بالرسالة والنبوة ، فكانت رحمته مقتضية لها .
الخامس : ملكه ، فإن الملك يقتضي التصرف بالقول ، كما أن الملك يقتضي التصرف بالفعل ، فالملك هو المتصرف بأمره وقوله ، فتنفذ أوامره ومراسيمه حيث شاء ، والمالك هو المتصرف في ملكه بفعله ، والله له الملك ، وله الملك ، فهو المتصرف في خلقه بالقول والفعل .
وتصرفه بقوله نوعان : تصرف بكلماته الكونية ، وتصرف بكلماته الدينية ، وكمال الملك بهما .
فإرسال الرسل موجب كمال ملكه وسلطانه ، وهذا هو الملك المعقول في فطر الناس وعقولهم ، فكل ملك لا تكون له رسل يبثهم في أقطار مملكته فليس بملك .
وبهذه الطريق يعلم وجود ملائكته ، وأن الإيمان بهم من لوازم الإيمان بملكه ، فإنهم رسل الله في خلقه وأمره .
السادس :
" ثبوت يوم " الدين وهو يوم الجزاء الذي يدين الله فيه العباد بأعمالهم خيرا وشرا ، وهذا لا يكون إلا بعد ثبوت الرسالة والنبوة ، وقيام الحجة التي بسببها يدان المطيع والعاصي .
السابع : كونه معبودا ، فإنه لا يعبد إلا بما يحبه ويرضاه ، ولا سبيل للخلق إلى معرفة ما يحبه ويرضاه إلا من جهة رسله ، فإنكار رسله إنكار لكونه معبودا .
الثامن : كونه هاديا إلى الصراط المستقيم ، وهو معرفة الحق والعمل به ، وهو أقرب الطرق الموصلة إلى المطلوب ، فإن الخط المستقيم : هو أقرب خط موصل بين نقطتين ، وذلك لا يعلم إلا من جهة الرسل ، فتوقفه على الرسل ضروري ، أعظم من توقف الطريق الحسي على سلامة الحواس .
التاسع : كونه منعما على أهل الهداية إلى الصراط المستقيم : فإن إنعامه عليهم إنما تم بإرسال الرسل إليهم ، وجعلهم قابلين الرسالة ، مستجيبين لدعوته ، وبذلك ذكرهم منته عليهم وإنعامه في كتابه .
العاشر : انقسام خلقه إلى منعم عليهم ، ومغضوب عليهم ، وضالين ، فإن هذا
[ ص: 92 ] الانقسام ضروري بحسب انقسامهم في معرفة الحق ، والعمل به إلى عالم به ، عامل بموجبه ، وهم أهل النعمة ، وعالم به معاند له ، وهم أهل الغضب ، وجاهل به وهم الضالون ، هذا الانقسام إنما نشأ بعد إرسال الرسل ، فلولا الرسل لكانوا أمة واحدة ، فانقسامهم إلى هذه الأقسام مستحيل بدون الرسالة ، وهذا الانقسام ضروري بحسب الواقع ، فالرسالة ضرورية .
وقد تبين لك بهذه الطريق والتي قبلها بيان تضمنها للرد على من أنكر المعاد الجسماني ، وقيامة الأبدان ، وعرفت اقتضاءها ضرورة لثبوت الثواب والعقاب والأمر والنهي وهو الحق الذي خلقت به وله السماوات والأرض والدنيا والآخرة وهو مقتضى الخلق والأمر ، ونفيه نفي لهما .