فصل
قال الدرجة الثالثة :
الاضطرار . والوقوع في يد التقطع الوجداني . أو الاحتباس في بيداء قيد التجريد . وهذا فقر الصوفية .
الاضطرار : شهود كمال الضرورة ، والفاقة علما وحالا .
ويريد بالوقوع في يد التقطع الوجداني : حضرة الجمع التي ليس عندها أغيار . فهي منقطعة عن الأغيار ، وحدانية في نفسها . والوقوع في يدها : الاستسلام والإذعان لها . والدخول في رقها .
وقد تقدم أن حضرة الجمع عندهم : هي شهود الحقيقة الكونية ، ورؤيتها بنور الكشف ، حيث يشهدها منشأ جميع الكائنات . والكائنات عدم بالنسبة إليها .
وأما الاحتباس في بيداء قيد التجريد .
[ ص: 419 ] فهو تجريد الفردانية أن يشهد معها غيرها ، وهو الفناء عن شهود السوى .
وسمي ذلك احتباسا لأنه منع نفسه عن شهود الأغيار . وجعل للتجريد قيدا . وهو التقيد بشهود الحقيقة .
وجعل القيد بيداء لوجهين :
أحدهما : أن الأغيار تبيد فيه وتنعدم . ولا يكون معه سواه .
والثاني : لسعته وفضائه . فصاحب مشهده : في بيداء واسعة ، وإن احتبس في قيد شهوده .
وقوله : وهذا فقر الصوفية .
قد يفهم منه : أن التصوف أعلى عنده من الفقر . فإن هذه الدرجة الثالثة - التي هي أعلى درجات الفقر عنده - هي من بعض مقامات الصوفية .
وطائفة تنازعه في ذلك ، وتقول : التصوف دون هذا المقام بكثير . والتصوف وسيلة إلى هذا الفقر . فإن التصوف خلق . وهذا الفقر حقيقة ، وغاية لا غاية وراءها .
وقد تقدم ذكر الخلاف بين القوم في هذه المسألة . وحكينا فيها ثلاثة أقوال ، هذين .
والثالث : أنه لا يفضل أحدهما على الآخر . فإن كل واحد منهم لا تتم حقيقته إلا بالآخر . وهذا قول الشاميين . والله أعلم .