[ ص: 460 ] فصل
قال : وهي على ثلاث درجات .
الأولى : فراسة طارئة نادرة . تسقط على لسان وحشي في العمر مرة . لحاجة سمع مريد صادق إليها . لا يتوقف على مخرجها . ولا يؤبه لصاحبها . وهذا شيء لا يخلص من الكهانة وما ضاهأها ، لأنها لم تشر عن عين ، ولم تصدر عن علم . ولم تسبق بوجود .
يريد بهذا النوع : فراسة تجري على ألسنة الغافلين ، الذين ليست لهم يقظة أرباب القلوب . فلذلك قال : طارئة نادرة تسقط على لسان وحشي . الذي لم يأنس بذكر الله . ولا اطمأن إليه قلب صاحبه . فيسقط على لسانه مكاشفة في العمر مرة . وذلك نادر . ورمية من غير رام .
وقوله : لحاجة مريد صادق .
يشير إلى حكمة إجرائها على لسانه . وهي حاجة المريد الصادق إليها . فإذا سمعها على لسان غيره كان أشد تنبيها له . وكانت عنده أعظم موقعا .
وقوله : لا يوقف على مخرجها .
يعني لا يعلم الشخص الذي وصلت إليه . واتصلت به . ما سبب مخرج ذلك الكلام ؟ وإنما سمعه مقتطعا مما قبله ومما هيجه .
ولا يؤبه لصاحبها لأنه ليس هناك .
قلت : وهذا من جنس الفأل . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الفأل ويعجبه . والطيرة من هذا . ولكن المؤمن لا يتطير . فإن التطير شرك . ولا يصده ما سمع عن مقصده وحاجته . بل يتوكل على الله ويثق به . ويدفع شر التطير عنه بالتوكل .
[ ص: 461 ] وفي الصحيحين عن
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=980558الطيرة شرك ، وما منا إلا . ولكن الله يذهبه بالتوكل .
وهذه الزيادة - وهي قوله : وما منا إلا - يعني من يعتريه ، ولكن الله يذهبها بالتوكل - مدرجة في الحديث من قول
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود . وجاء ذلك مبينا .
ومن له يقظة يرى ويسمع من ذلك عجائب . وهي من إلقاء الملك تارة على لسان الناطق . وتارة من إلقاء الشيطان .
فالإلقاء الملكي : تبشير وتحذير وإنذار . والإلقاء الشيطاني : تحزين وتخويف وشرك . وصد عن المطالب .
وصاحب الهمة والعزيمة : لا يتقيد بذلك . ولا يصرف إليه همته . وإذا سمع ما يسره استبشر . وقوي رجاؤه وحسن ظنه . وحمد الله . وسأله إتمامه . واستعان به على حصوله . وإذا سمع ما يسوءه : استعاذ بالله ووثق به . وتوكل عليه . ولجأ إليه ، والتجأ إلى التوحيد . وقال : اللهم لا طير إلا طيرك . ولا خير إلا خيرك . ولا إله غيرك . اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت . ولا يذهب بالسيئات إلا أنت . ولا حول ولا قوة إلا بك .
ومن جعل هذا نصب قلبه ، وعلق به همته : كان ضرره به أكثر من نفعه .
قوله : وهذا شيء لا يخلص من الكهانة
يعني : أنه من جنس الكهانة . وأحوال الكهان معلومة قديما وحديثا في إخبارهم عن نوع من المغيبات بواسطة إخوانهم من الشياطين الذين يلقون إليهم السمع ، ولم يزل هؤلاء في الوجود . ويكثرون في الأزمنة والأمكنة التي يخفى فيها نور النبوة . ولذلك كانوا أكثر ما كانوا في زمن الجاهلية ، وكل زمان جاهلية وبلد جاهلية وطائفة جاهلية ، فلهم
[ ص: 462 ] نصيب منها بحسب اقتران الشياطين بهم وطاعتهم لهم ، وعبادتهم إياهم .
وقوله : وما ضاهأها أي وما شابهها من جنس الخط بالرمل ، وضرب الحصا والودع ، وزجر الطير ، الذي يسمونه السانح والبارح ، والقرعة الشركية لا الشرعية ، والاستقسام بالأزلام ، وغير ذلك مما تتعلق به النفوس الجاهلية المشركة التي عاقبة أمرها خسر وبوار .
وقوله : لأنها لم تشر عن عين .
أي عن عين الحقيقة التي لا يصدر عنها إلا حق . يعني غير متصلة بالله عز وجل .
وقوله : ولم تصدر عن علم .
يعني أنها ظن وحسبان ، لا عن علم ويقين . وصاحبها دائما في شك . ليس على بصيرة من أمره .
وقوله : ولم تسق بوجود .
أي لم يسقها وجود الحقيقة لصاحبها ، بل هو فارغ بو غير واجد ، بل فاقد من غير أهل الوجود . والله أعلم .