قال : وهو على ثلاث درجات . الدرجة الأولى :
طمأنينة القلب بذكر الله . وهي طمأنينة الخائف إلى الرجاء ، والضجر إلى الحكم ، والمبتلى إلى المثوبة .
[ ص: 483 ] قد تقدم أن الطمأنينة بذكر الله بكلامه وكتابه ، ولا ريب أن الذي ذكره في هذه الدرجة : هو من جملة الطمأنينة بذكره . وهي أهم من ذلك . فذكر طمأنينة الخائف إلى الرجاء ، فإن الخائف إذا طال عليه الخوف واشتد به . وأراد الله عز وجل أن يريحه ، ويحمل عنه : أنزل عليه السكينة ، فاستراح قلبه إلى الرجاء واطمأن به . وسكن لهيب خوفه .
وأما طمأنينة الضجر إلى الحكم :
فالمراد بها : أن من أدركه الضجر من قوة التكاليف ، وأعباء الأمر وأثقاله - ولا سيما من أقيم مقام التبليغ عن الله ، ومجاهدة أعداء الله ، وقطاع الطريق إليه - فإن ما يحمله ويتحمله فوق ما يحمله الناس ويتحملونه . فلا بد أن يدركه الضجر ، ويضعف صبره . فإذا أراد الله أن يريحه ويحمل عنه : أنزل عليه سكينته . فاطمأن إلى حكمه الديني ، وحكمه القدري . ولا طمأنينة له بدون مشاهدة الحكمين . وبحسب مشاهدته لهما تكون طمأنينته . فإنه إذا اطمأن إلى حكمه الديني علم أنه دينه الحق ، وهو صراطه المستقيم ، وهو ناصره وناصر أهله وكافيهم ووليهم .
وإذا اطمأن إلى حكمه الكوني : علم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له ، وأنه ما يشاء كان وما لم يشأ لم يكن . فلا وجه للجزع والقلق إلا ضعف اليقين والإيمان . فإن المحذور والمخوف : إن لم يقدر فلا سبيل إلى وقوعه ، وإن قدر فلا سبيل إلى صرفه بعد أن أبرم تقديره . فلا جزع حينئذ لا مما قدر ولا مما لم يقدر .
نعم إن كان له في هذه النازلة حيلة . فلا ينبغي أن يضجر عنها ، وإن لم يكن فيها حيلة ، فلا ينبغي أن يضجر منها . فهذه طمأنينة الضجر إلى الحكم . وفي مثل هذا قال القائل :
ما قد قضى يا نفس فاصطبري له ولك الأمان من الذي لم يقدر وتحققي أن المقدر كائن
يجري عليك حذرت أم لم تحذري
وأما طمأنينة المبتلى إلى المثوبة
فلا ريب أن المبتلى إذا قويت مشاهدته للمثوبة سكن قلبه واطمأن بمشاهدة العوض . وإنما يشتد به البلاء إذا غاب عنه ملاحظة الثواب . وقد تقوى ملاحظة العوض حتى يستلذ بالبلاء ويراه نعمة ، ولا تستبعد هذا . فكثير من العقلاء إذا تحقق نفع الدواء الكريه فإنه يكاد يلتذ به . وملاحظته لنفعه تغيبه عن تألمه بمذاقه أو تخففه عنه . والعمل المعول عليه : إنما هو على البصائر . والله أعلم .