فصل
قال :
الدرجة الثالثة : محبة خاطفة . تقطع العبارة . وتدفع الإشارة . ولا تنتهي بالنعوت .
يعني : أنها تخطف قلوب المحبين . لما يبدو لهم من جمال محبوبهم . ويشير الشيخ بذلك إلى الفناء في المحبة والشهود . وإن العبارة تنقطع دون حقيقة تلك المحبة . ولا تبلغها . ولا تصل إليها الإشارة . فإنها فوق العبارة والإشارة .
وحقيقتها عندهم : فناء الحدوث في القدم ، واضمحلال الرسوم في نور الحقيقة التي تظهر لقلوب المحبين . فتملك عليها العبارة والإشارة والصفة . فلا يقدر المحب أن يعبر عما يجده لأن واردها قد خطف فهمه . والعبارة تابعة للفهم . فلا يقدر المحب أن يشير إليه إشارة تامة .
والعبارة عندهم : تحت الإشارة وأبعد منها . ولذلك جعل حظها القطع . وحظ الإشارة الدفع . فإن مقام المحبة يقبل العبارة . وهذه الدرجة الثالثة لا تقبل إشارة ما . ولا تقبل عبارة .
وعندهم : إنما تمتنع العبارة والإشارة في مقام التوحيد ، حيث لا يبقى للمحبة رسم ، ولا اسم ، ولا إشارة ، وهو الغاية عندهم كما سيأتي .
والصواب : أن توحيد المحبة أكمل من هذا التوحيد الذي يشيرون إليه ، وأعلى مقاما ، وأجل مشهدا . وهو مقام الرسل والأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - وخواص المقربين .
وأما توحيد الفناء : فدونه بكثير . وليس ذلك من مقامات الرسل والأنبياء عليهم
[ ص: 42 ] الصلاة والسلام . فإن توحيدهم توحيد بقاء ومحبة . لا توحيد فناء وغيبة ، وسكر واصطلام .
ولما كان المحب عند أرباب الفناء . لم يخلص إلى مقام توحيد الفناء بالكلية . بل رسوم المحبة معه بعد ، جعلوا المحبة هي العقبة التي ينحدر منها إلى أودية الفناء . كما تقدم .
والصواب الذي لا ريب فيه ، عند أرباب التحقيق والبصائر : أن لسان المحبة أتم ، ومقامها أكمل ، وحالها أشرف ، وصاحبها من أهل الصحو بعد السكر ، والتمكين بعد التلوين ، والبقاء بعد الفناء . ولسانه نائب عن كل لسان . وبيانه واف بكل ذوق . ومقامه أعلى من كل مقام . فهو أمين على كل من دونه من أرباب المقامات . لأن مقامه أمير على المقامات كلها .
أمين أمين عليه الندى جواد بخيل بأن لا يجودا
.
وأما كون نعوت المحبة لا تتناهى : فلأن لها في كل مقام نسبة وتعلقا به . وهي روح كل مقام ، والحاملة له . وأقدام السالكين إنما تتحرك بها . فلها تعلق بكل قدم ، وحال ومقام . فلا تتناهى نعوتها ألبتة . والله أعلم .