فصل
قال :
العطش : كناية عن غلبة ولوع بمأمول .
الولوع بالشيء : هو التعلق به بصفة المحبة ، مع أمل الوصول إليه .
وقيل في حد الولوع : إنه كثرة ترداد القلب إلى الشيء المحبوب . كما يقال : فلان مولع بكذا ، وقد أولع به .
وقيل : هو لزوم القلب للشيء . فكأنه مثل : أغري به ، فهو مغرى .
قال : وهو
على ثلاث درجات . الأولى :
عطش المريد إلى شاهد يرويه . أو إشارة تشفيه . أو عطفة تؤويه .
ولما كان المريد من أهل طلب الشواهد على الاعتبار ، ومثير العزمات ، وتعلق العباد بالأعمال .
وقوله " شاهد يرويه " يحتمل : أنه من الرواية . أي يرويه عمن أقامه له . فيكون ذلك إشارة إلى شواهد العلم . فهو شديد العطش إلى شواهد يرويها عن الصادقين من أهل السلوك ، يزداد بها تثبيتا وقوة بصيرة . فإن المريد إذا تجددت له حالة ، أو حصل له
[ ص: 64 ] وارد : استوحش من تفرده بها . فإذا قام عنده بمثلها شاهد حال لمريد آخر صادق ، قد سبقه إليها : استأنس بها أعظم استئناس . واستدل بشاهد ذلك المريد على صحة شاهده . فلذلك يشتد عطشه إلى شاهد يرويه عن الصادقين .
ويحتمل : أنه من الري - فيكون مضموم الياء - يعني : إذا حصل له الري بذلك الشاهد . ونزل على قلبه منزلة الماء البارد من الظمآن . فقرر عنده صحته ، وأنه شاهد حق .
ويرجح هذا : ذكر الري مع العطش . ويرجح الأول : ذكره لفظة الري في قوله " أو عطفة ترويه " والأمر قريب .
قوله " أو إشارة تشفيه " أي تشفي قلبه من علة عارضة . فإذا وردت عليه الإشارة - إما من صادق مثله ، أو من عالم ، أو من شيخ مسلك ، أو من آية فهمها ، أو عبرة ظفر بها - : اشتفى بها قلبه . وهذا معلوم عند من له ذوق .
قوله " أو إلى عطفة ترويه " أي عطفة من جانب محبوبه عليه ، تروي لهيب عطشه وتبرده . ولا شيء أروى لقلب المحب من عطف محبوبه عليه . ولا شيء أشد للهيبه وحريقه من إعراض محبوبه عنه . ولهذا كان عذاب أهل النار باحتجاب ربهم عنهم : أشد عليهم مما هم فيه من العذاب الجسماني . كما أن نعيم أهل الجنة - برؤيته تعالى وسماع خطابه ورضاه وإقباله - أعظم من نعيمهم الجسماني .