فصل
ثم للناس في
منفعة العبادة وحكمتها ومقصودها طرق أربعة ، وهم في ذلك أربعة أصناف .
[ ص: 112 ] الصنف الأول : نفاة الحكم والتعليل ، الذين يردون الأمر إلى محض المشيئة ، وصرف الإرادة ، فهؤلاء عندهم القيام بها ليس إلا لمجرد الأمر ، من غير أن تكون سببا لسعادة في معاش ولا معاد ، ولا سببا لنجاة ، وإنما القيام بها لمجرد الأمر ومحض المشيئة ، كما قالوا في الخلق : إنه لم يخلق ما خلقه لعلة ، ولا لغاية هي المقصودة به ، ولا لحكمة تعود إليه منه ، وليس في المخلوقات أسباب مقتضيات لمسبباتها ، ولا فيها قوى ولا طبائع ، فليست النار سببا للإحراق ، ولا الماء سببا للإرواء والبريد وإخراج النبات ، ولا فيه قوة ولا طبيعة تقتضي ذلك ، وحصول الإحراق والري ليس بهما ، لكن بإجراء العادة الاقترانية على حصول هذا عند هذا لا بسبب ولا بقوة قامت به ، وهكذا الأمر عندهم في أمره الشرعي سواء ، لا فرق في نفس الأمر بين المأمور والمحظور ، ولكن المشيئة اقتضت أمره بهذا ونهيه عن هذا ، من غير أن يقوم بالمأمور به صفة اقتضت حسنه ، ولا المنهي عنه صفة اقتضت قبحه .
ولهذا الأصل لوازم وفروع كثيرة فاسدة ، وقد ذكرناها في كتابنا الكبير المسمى " مفتاح دار السعادة ومطلب أهل العلم والإرادة " وبينا فساد هذا الأصل من نحو ستين وجها ، وهو كتاب بديع في معناه ، وذكرناه أيضا في كتابنا المسمى " سفر الهجرتين وطريق السعادتين " .
وهؤلاء لا يجدون حلاوة العبادة ولا لذتها ، ولا يتنعمون بها ، وليست الصلاة قرة أعينهم ، وليست الأوامر سرور قلوبهم ، وغذاء أرواحهم وحياتهم ، ولهذا يسمونها تكاليف ، أي قد كلفوا بها ، ولو سمى مدع لمحبة ملك من الملوك أو غيره ما يأمره به تكليفا ، وقال : إني إنما أفعله بكلفة ، لم يعده أحد محبا له ، ولهذا أنكر هؤلاء أو كثير منهم محبة العبد لربه ، وقالوا : إنما يحب ثوابه وما يخلقه له من النعيم الذي يتمتع به ، لا أنه يحب ذاته ، فجعلوا المحبة لمخلوقه دونه ، وحقيقة العبودية هي كمال المحبة ، فأنكروا حقيقة العبودية ولبها ، وحقيقة الإلهية كونه مألوها محبوبا بغاية الحب ، المقرون بغاية الذل والخضوع ، والإجلال والتعظيم ، فأنكروا كونه محبوبا ، وذلك إنكار لإلهيته ، وشيخ هؤلاء هو
nindex.php?page=showalam&ids=14005الجعد بن درهم الذي ضحى به
nindex.php?page=showalam&ids=14998خالد بن عبد الله القسري في يوم أضحى ،
[ ص: 113 ] وقال : إنه زعم أن الله لم يكلم
موسى تكليما ، ولم يتخذ
إبراهيم خليلا ، وإنما كان إنكاره لكونه تعالى محبوبا محبا ، لم ينكر حاجة
إبراهيم إليه ، التي هي الخلة عند
الجهمية ، التي يشترك فيها جميع الخلائق ، فكلهم أخلاء لله عندهم .
وقد بينا فساد قولهم هذا ، وإنكارهم محبة الله من أكثر من ثمانين وجها في كتابنا المسمى " قرة عيون المحبين ، وروضة قلوب العارفين " وذكرنا فيه وجوب تعلق المحبة بالحبيب الأول من جميع طرق الأدلة النقلية والعقلية والذوقية والفطرية وأنه لا كمال للإنسان بدون ذلك البتة ، كما أنه لا كمال لجسمه إلا بالروح والحياة ، ولا لعينه إلا بالنور الباصر ، ولا لأذنه إلا بالسمع ، وأن الأمر فوق ذلك وأعظم .