قال :
الدرجة الثالثة : دهشة المحب عند صولة الاتصال على لطف العطية ، وصولة نور القرب على نور العطف ، وصولة شوق العيان على شوق الخبر .
الاتصال عنده على ثلاثة مراتب : اتصال الاعتصام ، واتصال الشهود ، واتصال الوجود ، كما سيأتي الكلام عليه إن شاء الله . وبيان ما فيه من حق وباطل ، يجل عنه جناب الحق تعالى .
[ ص: 78 ] و " العطية " هاهنا : هي الواردات التي ترد في لطف وخفاء على قلب العبد من قبل الحق تعالى . وهي ألطاف يعامل المحبوب بها محبه ، وتوجب قربا خالصا هو المسمى بالاتصال . فيصول ذلك القرب على لطف العطية . فيغيب العبد عنها وعن شهودها . وينسيه إياها . لما أوجبه له ذلك القرب من الدهش .
وقد يكون سبب ذلك : تواتر أنواع العطايا عليه ، حتى يدهشه كثرتها وتنوعها . فتوجب له كثرتها دهشة ، تمنعه من مطالعتها ، مع انضمام ذلك إلى صولة القرب . وهي واردات وأنوار يتصل بعضها ببعض . تمحو ظلم نفسه ورسمه .
وأما صولة نور القرب على نور العطف فهو قريب من هذا . أو هو بعينه وإنما كرر المعنى بلفظ آخر . فإن لطف العطية كله نور عطف ، والاتصال هو القرب نفسه . تعالى الله عن غير ذلك من اتصال يتوهمه ملاحدة الطريق وزنادقتهم .
وأما صولة شوق العيان على شوق الخبر .
فمراده بها : أن المريد في أول الأمر سالك على شوق الخبر في مقام الإيمان . فإذا ترقى عنه إلى مقام الإحسان ، وتمكن منه : بقي شوقه بشوق العيان . فصال هذا الشوق على الشوق الأول . فإن كان هذا مراده ، وإلا فالعيان في الدنيا لا سبيل للبشر إليه ألبتة .
ومن زعم خلاف ذلك فأحسن أحواله : أن يكون ملبوسا عليه وليس فوق الإحسان للصديقين مرتبة إلا بقاؤهم فيه . فإن سمي ذلك عيانا فالتسمية الشرعية المخلصة التي لا لبس فيها أولى وأحرى .
وأكثر آفات الناس من الألفاظ . ولا سيما في هذه المواضع التي يعز فيها تصور الحق على ما هو عليه ، والتعبير المطابق ، فيتولد من ضعف التصور ، وقصور التعبير : نوع تخبيط . ويتزايد على ألسنة السامعين له وقلوبهم ، بحسب قصورهم ، وبعدهم من العلم . فتفاقم الخطب ، وعظم الأمر . والتبس طريق أولياء الله الصادقين بطرائق الزنادقة الملحدين . وعز المفرق بينهما . فدخل على الدين من الفساد من ذلك ما لا يعلمه إلا الله . وأشير إلى أعظم الخلق كفرا بالله عز وجل وإلحادا في دينه : بأنه من شيوخ التحقيق والمعرفة والسلوك .
ولولا ضمان الله بحفظ دينه ، وتكفله بأن يقيم له من يجدد أعلامه ، ويحيي منه ما أماته المبطلون . وينعش ما أخمله الجاهلون : لهدمت أركانه ، وتداعى بنيانه ، ولكن الله ذو فضل على العالمين .