فصل
قال :
الدرجة الثالثة : برق يلمع من جانب اللطف في عين الافتقار . فينشئ سحاب السرور . ويمطر مطر الطرب . ويجري من نهر الافتخار
هذا البرق يلمع من أفق ملاطفة الرب تعالى لعبده بأنواع الملاطفات . ومطلع هذا البرق : في عين الافتخار ، الذي هو باب السلوك إلى الله تعالى ، والطريق الأعظم الذي لا يدخل عليه إلا منه . وكل طريق سواه فمسدود . ومع هذا فلا يصل العبد منه إلا بالمتابعة . فلا طريق إلى الله ألبتة أبدا - ولو تعنى المتعنون ، وتمنى المتمنون - إلا
[ ص: 85 ] الافتقار ، ومتابعة الرسول فقط . فلا يتعب السالك نفسه في غير هذه الطريق . فإنه على غير شيء . وهو صيد الوحوش والسباع .
قوله " فينشئ سحاب السرور " أي ينشئ للعبد سرورا خاصا وفرحا بربه لا عهد له بمثله ، ولا نظير له في الدنيا ، ونفحة من نعيم الجنة ، ونسمة من ريح شمالهم . فإذا نشأ له ذلك السحاب أمطر عليه صيب الطرب ، فطرب باطنه وسره لما ورد عليه من عند سيده ووليه . وإذا اشتد ذلك الطرب . جرى به نهر الافتخار ، يتميز به عن أبناء جنسه بما خصه الله به .
وإما أن يريد به : افتخاره على الشيطان . وهذه مخيلة محمودة ، طربا وافتخارا عليه . فإن الله لا يكره ذلك . ولهذا يحب المختال بين الصفين عند الحرب ، لما في ذلك من مراغمة أعدائه ، ويحب الخيلاء عند الصدقة - كما جاء ذلك مصرحا به في الحديث - لسر عجيب ، يعرفه أولو الصدقات والبذل من نفوسهم عند ارتياحهم للعطاء ، وابتهاجهم به ، واختيالهم على النفس الشحيحة الأمارة بالبخل . وعلى الشيطان المزين لها ذلك :
وهم ينفذون المال في أول الغنى ويستأنفون الصبر في آخر الصبر مغاوير للعليا مغابير للحمى
مفاريج للغمى مداريك للوتر وتأخذهم في ساعة الجود هزة
كما تأخذ المطراب عن نزوة الخمر
فهذا الافتخار من تمام العبودية .
أو يريد به : أنه حري بالافتخار بما تميز به . ولم يفتخر به إبقاء على عبوديته وافتقاره . وكلا المعنيين صحيح . والله أعلم .
وسر ذلك : أن العبد إذا لاحظ ما هو فيه من الألطاف ، وشهده من عين المنة ، ومحض الجود : شهد مع ذلك فقره إليه في كل لحظة ، وعدم استغنائه عنه طرفة عين . فكان ذلك من أعظم أبواب الشكر ، وأسباب المزيد ، وتوالي النعم عليه .
وكلما توالت عليه النعم : أنشأت في قلبه سحائب السرور . وإذا انبسطت هذه السحائب في سماء قلبه ، وامتلأ بها أفقه : أمطرت عليه وابل الطرب بما هو فيه من لذيذ السرور . فإن لم يصبه وابل فطل . وحينئذ يجري على لسانه وظاهره نهر الافتخار من غير عجب ولا فخر ، بل فرحا بفضل الله ورحمته ، كما قال تعالى
قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا فالافتخار على ظاهره ، والافتقار والانكسار في باطنه ، ولا ينافي أحدهما الآخر .
[ ص: 86 ] وتأمل قول النبي - صلى الله عليه وسلم -
nindex.php?page=hadith&LINKID=980587أنا سيد ولد آدم ولا فخر فكيف أخبر بفضل الله ومنته عليه . وأخبر أن ذلك لم يصدر منه افتخارا به على من دونه ، ولكن إظهارا لنعمة الله عليه ، وإعلاما للأمة بقدر إمامهم ومتبوعهم عند الله ، وعلو منزلته لديه . لتعرف الأمة نعمة الله عليه وعليهم .
ويشبه هذا قول
يوسف الصديق للعزيز
اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم فإخباره عن نفسه بذلك ، لما كان متضمنا لمصلحة تعود على العزيز وعلى الأمة ، وعلى نفسه : كان حسنا . إذ لم يقصد به الفخر عليهم ، فمصدر الكلمة والحامل عليها يحسنها ويهجنها . وصورته واحدة .