فصل
[ ص: 121 ] قوله : " وتفيد مطالعة البدايات " يحتمل كلامه أمرين .
أحدهما : أن
ملاحظة عين الجمع : تفيد صاحبها مطالعة السوابق التي ابتدأه الله بها . فتفيده ملاحظة عين الجمع نظرة إلى أولية الرب تعالى في كل شيء .
ويحتمل أن يريد بالبدايات : بدايات سلوكه ، وحدة طلبه . فإنه في حال سلوكه لا يلتفت إلى ما وراءه ، لشدة شغله بما بين يديه . وغلبة أحكام الهمة عليه . فلا يتفرغ لمطالعة بداياته . فإذا لاحظ عين الجمع : قطع السلوك الأول . وبقي له سلوك ثان . فتفرغ حينئذ إلى مطالعة بداياته . ووجد اشتياقا منه إليها ، كما قال
الجنيد : واشوقاه إلى أوقات البداية .
يعني : لذة أوقات البداية ، وجمع الهمة على الطلب ، والسير إلى الله . فإنه كان مجموع الهمة على السير والطلب . فلما لاحظ عين الجمع فنيت رسومه ، وهو لا يمكنه الفناء عن بشريته ، وأحكام طبيعته . فتقاضت طباعه ما فيها . فلزمته الكلف . فارتاح إلى أوقات البدايات ، لما كان فيها من لذة الإعراض عن الخلق ، واجتماع الهمة .
ومر
nindex.php?page=showalam&ids=1أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه على رجل ، وهو يبكي من خشية الله . فقال : هكذا كنا حتى قست قلوبنا .
وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم -
nindex.php?page=hadith&LINKID=980616إن لكل عامل شرة . ولكل شرة فترة .
فالطالب الجاد : لا بد أن تعرض له فترة . فيشتاق في تلك الفترة إلى حاله وقت الطلب والاجتهاد .
nindex.php?page=hadith&LINKID=980617ولما فتر الوحي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يغدو إلى شواهق الجبال ليلقي نفسه . فيبدو له جبريل عليه السلام ، فيقول له : إنك رسول الله . فيسكن لذلك جأشه ، وتطمئن نفسه .
[ ص: 122 ] فتخلل الفترات للسالكين : أمر لازم لا بد منه . فمن كانت فترته إلى مقاربة وتسديد ، ولم تخرجه من فرض ، ولم تدخله في محرم : رجا له أن يعود خيرا مما كان .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه : إن لهذه القلوب إقبالا وإدبارا . فإذا أقبلت فخذوها بالنوافل . وإن أدبرت فألزموها الفرائض .
وفي هذه الفترات والغيوم والحجب ، التي تعرض للسالكين : من الحكم ما لا يعلم تفصيله إلا الله . وبها يتبين الصادق من الكاذب .
فالكاذب : ينقلب على عقبيه . ويعود إلى رسوم طبيعته وهواه .
والصادق : ينتظر الفرج . ولا ييأس من روح الله . ويلقي نفسه بالباب طريحا ذليلا مسكينا مستكينا ، كالإناء الفارغ الذي لا شيء فيه ألبتة ، ينتظر أن يضع فيه مالك الإناء وصانعه ما يصلح له ، لا بسبب من العبد - وإن كان هذا الافتقار من أعظم الأسباب - لكن ليس هو منك . بل هو الذي من عليك به . وجردك منك . وأخلاك عنك . وهو الذي يحول بين المرء وقلبه .
فإذا رأيته قد أقامك في هذا المقام ، فاعلم أنه يريد أن يرحمك ويملأ إناءك ، فإن وضعت القلب في غير هذا الموضع فاعلم أنه قلب مضيع . فسل ربه ومن هو بين أصابعه : أن يرده عليك ويجمع شملك به . ولقد أحسن القائل :
إذا ما وضعت القلب في غير موضع بغير إناء فهو قلب مضيع