فصل
قال :
والمعنى الثاني : اسم لطريق سالك . يسير بين تمكن وتلون ، لكنه إلى التمكن ما هو . يسلك الحال ، ويلتفت إلى العلم . فالعلم يشغله في حين ، والحال
[ ص: 129 ] يحمله في حين . فبلاؤه بينهما : يذيقه شهودا طورا . ويكسوه عبرة طورا ، ويريه غيرة تفرق طورا .
هذا المعنى : هو المعنى الثاني من المعاني الثلاثة من معاني الوقت عنده .
قوله " اسم لطريق سالك " هو على الإضافة . أي لطريق عبد سالك .
قوله " يسير بين تمكن وتلون " أي ذلك
العبد يسير بين تمكن وتلون . والتمكن هو الانقياد إلى أحكام العبودية بالشهود والحال ، والتلون في هذا الموضع خاصة : هو الانقياد إلى أحكام العبودية بالعلم . فالحال يجمعه بقوته وسلطانه . فيعطيه تمكينا . والعلم بلونه بحسب متعلقاته وأحكامه .
قوله : لكنه إلى التمكن ما هو ؟ يسلك الحال . ويلتفت إلى العلم .
يعني : أن هذا العبد هو سالك إلى التمكن ما دام يسلك الحال ويلتفت إلى العلم . فأما إن سلك العلم ، والتفت إلى الحال : لم يكن سالكا إلى التمكن .
فالسالكون ضربان : سالكون على الحال ، ملتفتون إلى العلم . وهم إلى التمكن أقرب ، وسالكون على العلم . ملتفتون إلى الحال . وهم إلى التلون أقرب . هذا حاصل كلامه .
وهذه الثلاثة : هي المفرقة بين أهل العلم وأهل الحال ، حتى كأنهما غيران وحزبان ، وكل فرقة منهما لا تأنس بالأخرى ، ولا تعاشرها إلا على إغماض ونوع استكراه .
وهذا من تقصير الفريقين ، حيث ضعف أحدهما عن السير في العلم . وضعف الآخر عن الحال في العلم . فلم يتمكن كل منهما من الجمع بين الحال والعلم . فأخذ هؤلاء العلم ، وسعته ونوره . ورجحوه . وأخذ هؤلاء الحال وسلطانه وتمكينه ورجحوه . وصار الصادق الضعيف من الفريقين : يسير بأحدهما ملتفتا إلى الآخر .
فهذا مطيع للحال . وهذا مطيع للعلم . لكن المطيع للحال متى عصى بهالعلم : كان منقطعا محجوبا ، وإن كان له من الحال ما عساه أن يكون . والمطيع للعلم متى أعرض به عن الحال كان مضيعا منقوصا ، مشتغلا بالوسيلة عن الغاية .
وصاحب التمكين : يتصرفعلمه في حاله . ويحكم عليه فينقاد لحكمه ،
[ ص: 130 ] ويتصرف حاله في علمه . فلا يدعه أن يقف معه . بل يدعوه إلى غاية العلم . فيجيبه ويلبي دعوته . فهذه حال الكمل من هذه الأمة . ومن استقرأ أحوال الصحابة رضي الله عنهم وجدها كذلك .
فلما فرق المتأخرون بين الحال والعلم : دخل عليهم النقص والخلل . والله المستعان
يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما إنه عليم قدير فكذلك يهب لمن يشاء علما . ولمن يشاء حالا . ويجمع بينهما لمن يشاء . ويخلي منهما من يشاء .
قوله " فالعلم يشغله في حين " أي يشغله عن السلوك إلى تمكن الحال . لأن العلم متنوع التعلقات فهو يفرق . والحال يجمع . لأنه يدعوه إلى الفناء . وهناك سلطان الحال .
قوله " والحال يحمله في حين " أي يغلب عليه الحال تارة . فيصير محمولا بقوة الحال وسلطانه على السلوك . فيشتد بحكم الحال ، يعني : وإذا غلبه العلم شغله عن السلوك . وهذا هو المعهود من طريقة المتأخرين : أن العلم عندهم يشغل عن السلوك . ولهذا يعدون السالك من سلك على الحال ملتفتا عن العلم .
وأما على ما قررناه - من أن العلم يعين على السلوك ، ويحمل عليه ، ويكون صاحبه سالكا به وفيه - فلا يشغله العلم عن سلوكه . وإن أضعف سيره على درب الفناء . فلا ريب أن العلم لا يجامع الفناء .
فالفناء ليس هو غاية السالكين إلى الله . بل ولا هو لازم من لوازم الطريق ، وإن كان عارضا من عوارضها . يعرض لغير الكمل ، كما تقدم تقرير ذلك .
فبينا أن الفناء الكامل ، الذي هو الغاية المطلوبة : هو الفناء عن محبة ما سوى الله وإرادته . فيفنى بمحبة الله عن محبة ما سواه . وبإرادته ورجائه ، والخوف منه ، والتوكل عليه ، والإنابة إليه : عن إرادة ما سواه وخوفه ورجائه والتوكل عليه .
وهذا الفناء لا ينافي العلم بحال . ولا يحول بين العبد وبينه . بل قد يكون في أغلب الأحوال من أعظم أعوانه . وهذا أمر غفل عنه أكثر المتأخرين ، بحيث لم يعرفوه ولم يسلكوه . ولكن لم يخل الله الأرض من قائم به ، داع إليه .
قوله " فبلاؤه بينهما " أي عذابه وألمه : بين داعي الحال وداعي العلم . فإيمانه
[ ص: 131 ] يحمله على إجابة داعي العلم ، ووارده يحمله على إجابة داعي الحال . فيصير كالغريم بين مطالبين . كل منهما يطالبه بحقه . وليس بيده إلا ما يقضي أحدهما .
وقد عرفت أن هذا من الضيق . وإلا فمع السعة : يوفي كلا منهما حقه .
قوله " يذيقه شهودا طورا " أي ذلك البلاء الحاصل بين الداعيين يذيقه شهودا طورا ، وهو الطور الذي يكون الحاكم عليه فيه : هو العلم .
قوله " ويكسوه عبرة طورا " الظاهر : أنه عبرة بالباء الموحدة والعين ، أي اعتبارا بأفعاله ، واستدلالا عليه بها . فإنه سبحانه دل على نفسه بأفعاله . فالعلم يكسو صاحبه اعتبارا واستدلالا على الرب بأفعاله .
ويصح أن يكون غيرة ، بالغين المعجمة والياء المثناة من تحت . ومعناه : أن العلم يكسوه غيرة من حجابه عن مقام صاحب الحال . فيغار من احتجاجه عن الحال بالعلم ، وعن العيان بالاستدلال ، وعن الشهود - الذي هو مقام الإحسان - بالإيمان ، الذي هو إيمان بالغيب .
قوله " ويريه غيرة تفرق طورا " هذا بالغين المعجمة ليس إلا ، أي ويريه العلم غيرة تفرقة في أوديته . فيفرق بين أحكام الحال وأحكام العلم . وهو حال صحو وتمييز .
وكأن الشيخ يشير إلى أن صاحب هذا المقام تغار تفرقته من جمعيته على الله . فنفسه تفر من الجمعية على الله إلى تفرق العلم . فإنه لاأشق على النفوس من جمعيتها على الله . فهي تهرب من الله إلى الحال تارة ، وإلى العمل تارة ، وإلى العلم تارة ، هذه نفوس السالكين الصادقين .
وأما من ليس من أهل هذا الشأن : فنفوسهم تفر من الله إلى الشهوات والراحات . فأشق ما على النفوس : جمعيتها على الله . وهي تناشد صاحبها : أن لا يوصلها إليه ، وأن يشغلها بما دونه . فإن
حبس النفس على الله شديد . وأشد منه : حبسها على أوامره . وحبسها عن نواهيه . فهي دائما ترضيك بالعلم عن العمل ، وبالعمل عن الحال ، وبالحال عن الله سبحانه وتعالى ، وهذا أمر لا يعرفه إلا من شد مئزر سيره إلى الله . وعلم أن كل ما سواه فهو قاطع عنه .
وقد تضمن كلامه في هذه الدرجة ثلاث درجات - كما أشار إليه - : درجة الحال . ودرجة العلم ، ودرجة التفرقة بين الحال والعلم . وهذه الثلاث الدرجات : هي المختصة بالمعنى الثاني من معاني الوقت . والله أعلم .