فصل
قال :
الطبقة الثالثة : طائفة أسرهم الحق عنهم ، فألاح لهم لائحا أذهلهم عن إدراك ما هم فيه وهيمهم عن شهود ما هم له ، وضن بحالهم عن علمهم ما هم به ، فاستسروا عنهم مع شواهد تشهد لهم بصحة مقامهم ، عن قصد صادق يهيجه غيب وحب صادق يخفى عليه علمه ، ووجد غريب لا ينكشف له موقده ، وهذا من أدق مقامات أهل الولاية .
[ ص: 173 ] أهل هذه الطبقة : أحق باسم السر من الذين قبلهم ، فإنه إذا كانت أحوال القلب ، ومواهب الرب التي وضعها فيه سرا عن صاحبه ، بحيث لا يشعر هو بها ، شغلا عنها بالعزيز الوهاب سبحانه ، فلا يتسع قلبه لاشتغاله به وبغيره ، بل يشتغل بمجريها ومنشئها وواهبها عنها فهذا أقوى وجوه السر ، بل ذلك أخفى من السر ، ومن أعظم الستر والإخفاء أن يستر الله سبحانه وتعالى حال عبده ويخفيه عنه ، رحمة به ولطفا ، لئلا يساكنه وينقطع به عن ربه ، فإن ذلك خلعة من خلع الحق تعالى ، فإذا سترها صاحبها وملبسها عن عبده ، فقد أراد به أن لا يقف مع شيء دونه ، وقد يكون ذلك الستر مما يشتغل به العبد عن مشاهدة جلال الرب تعالى وكماله وجماله ، أعني مشاهدة القلب لمعاني تلك الصفات واستغراقه فيها .
وعلامة هذا الشهود الصحيح : أن يكون باطنه معمورا بالإحسان ، وظاهره مغمورا بالإسلام ، فيكون ظاهره عنوانا لباطنه مصدقا لما اتصف به ، وباطنه مصححا لظاهره ، هذا هو الأكمل عند أصحاب الفناء .
وأكمل منه : أن يشهد ما وهبه الله له ويلاحظه ويراه من محض المنة وعين الجود ، فلا يفنى بالمعطى عن رؤية عطيته ، ولا يشتغل بالعطية عن معطيها ، وقد أمر الله سبحانه بالفرح بفضله ورحمته ، وذلك لا يكون إلا برؤية الفضل والرحمة وملاحظتهما ، وأمر بذكر نعمه وآلائه ، فقال تعالى :
ياأيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم ، وقال تعالى :
فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون ، وقال تعالى :
واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به .
فلم يأمر الله سبحانه بالفناء عن شهود نعمته ، فضلا عن أن يكون مقام الفناء أرفع من مقام شهودها من فضله ومنته .
وقد أشبعنا القول في هذا فيما تقدم ، ولا تأخذنا فيه لومة لائم ، ولا تأخذ أرباب الفناء في ترجيح الفناء عليه لومة لائم .
فقوله : " أسرهم الحق عنهم " أي : شغلهم به عن ذكر أنفسهم ، فأنساهم بذكره ذكر نفوسهم ، وهذا ضد حال الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم ، فإن أولئك لما نسوه أنساهم مصالح أنفسهم التي لا صلاح لهم إلا بها ، فلا يطلبونها ، وأنساهم عيوبهم ،
[ ص: 174 ] فلا يصلحونها ، وهؤلاء أنساهم حظوظهم بحقوقه ، وذكر ما سواه بذكره ، والمقصود : أنه سبحانه أخذهم إليه وشغلهم به عنهم .
قوله : وألاح لهم لائحا أذهلهم عن إدراك ما هم فيه .
ألاح ؛ أي : أظهر ، والمعنى : أظهر لهم من معرفة جماله وجلاله لائحا ما لم تتسع قلوبهم بعده لإدراك شيء من أحوالهم ومقاماتهم ، وهذا رقيقة من حال أهل الجنة ، إذا تجلى لهم سبحانه وأراهم نفسه ، فإنهم لا يشعرون في تلك الحال بشيء من النعيم ، ولا يلتفتون إلى سواه ألبتة ، كما صرح به في الحديث الصحيح في قوله :
nindex.php?page=hadith&LINKID=980629فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه .
والمعنى : أن هذا اللائح الذي ألاحه سبحانه لهم أذهلهم عن الشعور بغيره .
قوله : " هيمهم عن شهود ما هم له " يحتمل أن يكون مراده : أن هذا اللائح هيمهم عن شهود ما خلقوا له ، فلم يبق فيهم اتساع للجمع بين الأمرين ، وهذا وإن كان لقوة الوارد فهو دليل على ضعف المحل ، حيث لم يتسع القلب معه لذكر ما خلق له ، والكمال : أن يجتمع له الأمران .
ويحتمل أن يريد به : أن هذا اللائح غيبهم عن شهود أحوالهم التي هم لها في تلك الحال ، فغابوا بمشهودهم عن شهودهم ، وبمعروفهم عن معرفتهم ، وبمعبودهم عن عبادتهم ، فإن الهائم لا يشعر بما هو فيه ولا بحال نفسه ، وفي الصحاح : الهيام كالجنون من العشق .
قوله : " وضن بحالهم عن علمهم " أي : بخل به ، والمعنى لم يكن علمهم أن يدرك حالهم وما هم عليه ،
قوله : " فاستسروا عنهم " أي : اختفوا حتى عن أنفسهم ، فلم تعلم نفوسهم كيف هم ؟ ولا تبادر بإنكار هذا ، تكن ممن لا يصل إلى العنقود ، فيقول : هو حامض .
قوله : مع شواهد تشهد لهم بصحة مقامهم .
يريد : أنهم لم يعطلوا أحكام العبودية في هذه الحال ، فيكون ذلك شاهدا عليهم بفساد أحوالهم ، بل لهم مع ذلك شواهد صحيحة ، تشهد لهم بصحة مقاماتهم ، وتلك الشواهد : هي القيام بالأمر وآداب الشريعة ظاهرا وباطنا .
قوله : عن قصد سابق ، يهيجه غيب
[ ص: 175 ] يجوز أن يتعلق هذا الحرف وما بعده بمحذوف ، دل عليه الكلام ؛ أي : حصل لهم ذلك عن قصد صادق ؛ أي : لازم ثابت ، لا يلحقه تلون " يهيجه غيب " أي : أمر غائب عن إدراكهم هيج لهم ذلك القصد الصادق .
قوله : وحب صادق يخفى عليه مبدأ علمه ، أي : هم لا يعرفون مبدأ ما بهم ، ولا يصل علمهم إليه ؛ لأنهم لما لاح لهم ذلك اللائح استغرق قلوبهم ، وشغل عقولهم عن غيره ، فهم مأخوذون عن أنفسهم مقهورون بواردهم .
قوله : ووجد غريب لا ينكشف لصاحبه موقده
أي : لا ينكشف لصاحب هذا الوجد السبب الذي أهاجه له ، وأوقده في قلبه ، فهو لا يعرف السبب الذي أوجد نار وجده .
قوله : " وهذا
من أدق مقامات أهل الولاية " جعله دقيقا لكون الحس مقهورا مغلوبا عند صاحبه ، والعلم والمعرفة لا يحكمان عليه ، فضلا عن الحس والعادة .
وحاصل هذا المقام : الاستغراق في الفناء ، وهو الغاية عند الشيخ
والصحيح : أن أهل الطبقة الثانية أعلى من هؤلاء ، وأرفع مقاما ، وهم الكمل ؛ وهم أقوى منهم ، كما كان مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء أرفع من مقام
موسى عليه السلام يوم التجلي ، ولم يحصل لرسول الله صلى الله عليه وسلم من الفناء ما حصل
لموسى صلى الله عليه وسلم ، وكان حب امرأة العزيز
ليوسف عليه السلام أعظم من حب النسوة ، ولم يحصل لها من تقطيع الأيدي ونحوه ما حصل لهن ، وكان حب
أبي بكر رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم من حب
عمر رضي الله عنه وغيره ، ولم يحصل له عند موته من الاضطراب والغشي والإقعاد ما حصل لغيره .
فأهل البقاء والتمكن : أقوى حالا ، وأرفع مقاما من أهل الفناء ، وبالله التوفيق .