فصل
قال :
والأنفاس ثلاثة : نفس في حين استتار مملوء من الكظم ، متعلق بالعلم ، إن تنفس تنفس بالأسف ، وإن نطق نطق بالحزن ، وعندي : هو متولد من وحشة الاستتار ، وهي الظلمة التي قالوا : إنها مقام .
فقوله : نفس في حين استتار ؛ أي : يكون له حال صادق ، وكشف صحيح ، فيستتر عنه بحكم الطبيعة والبشرية ولا بد ، فيضيق بذلك صدره ، ويمتلئ كظما بحجب ما كان فيه واستتاره لأسباب فاعلية وغائية ، سترد عليك إن شاء الله ، فإذا تنفس في هذه الحال فتنفسه تنفس الحزين المكروب .
قوله : " مملوء من الكظم " الكظم : هو الإمساك ، ومنه : كظم غيظه ، إذا تجرعه وحبسه ولم يخرجه .
قوله : " متعلق بالعلم " يريد : أن ذلك النفس متعلق بأحكام الظاهر لا بأحكام الحال ، وذلك هو البلاء الذي تقدم ذكر الشيخ له ، وهو
بلاء العبد بين الاستجابة لداعي العلم وداعي الحال .
وإنما كان ذلك نفس مكظوم : لخلوه في هذه الحال من أحكام المحبة التي تهون الشدائد ، وتسهل الصعب ، وتحمل الكل ، وتعين على نوائب الحق وتعلقه بالعلم الذي هو داعي التفرق فإن كرب المحبة ممزوج بالحلاوة ، فإذا خلا من أحكامها إلى أحكام العلم فقد تلك الحلاوة ، واشتاق إلى ذلك الكرب ، كما قيل :
ويشكو المحبون الصبابة ليتني تحملت ما يلقون من بينهم وحدي فكان لقلبي لذة الحب كلها
فلم يلقها قبلي محب ولا بعدي
قوله : إن تنفس تنفس بالأسف .
[ ص: 178 ] الأسف : الحزن ، كقوله تعالى عن
يعقوب : ياأسفى على يوسف والأسف : الغضب ، كقوله تعالى :
فلما آسفونا انتقمنا منهم وهو في هذا الموضع : الحزن على ما توارى عنه من مطلوبه ، أو من صدق حاله .
قوله : " وإن نطق نطق بالحزن " يعني : أن هذا المتنفس إن نطق بما يدل على الحزن على ما توارى عنه ، فمصدر تنفسه ونطقه حزنه على ما حجب عنه .
قوله : : وعندي : أنه يتولد من وحشة الاستتار والحجب .
وكأن الاستتار السبب فيتولد السبب .
يريد : أن هذا الأسف وإن أضيف إلى الاستتار والحجاب فتولده : إنما هو من الوحشة التي سببها الاستتار من تلك الوحشة المتولدة من الاستتار ، وهذا صحيح ؛ فإنه لما كان مطلوبه مشاهدا له ، وحال محبته وأحكامها قائما به ، كان نصيبه من الأنس على قدر ذلك ، فإنه لما توارى عنه مطلوبه وأحكام محبته استوحش لذلك ، فتولد الحزن من تلك الوحشة .
وبعد ، فالحزن يتولد من مفارقة المحبوب ، ليس له سبب سواه ، وإن تولد من حصول مكروه ، فذلك المكروه : إنما كان كذلك لما فات به من المحبوب ، فلا حزن إذا ولا هم ولا غم ، ولا أذى ولا كرب إلا في مفارقة المحبوب ، ولهذا كان حزن الفقر والمرض والألم والجهل والخمول والضيق وسوء الحال ونحو ذلك : على فراق المحبوب من المال والوجد والعافية ، والعلم والسعة وحسن الحال ، ولهذا جعل الله سبحانه وتعالى مفارقة المشتهيات من أعظم العقوبات ، فقال تعالى :
وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل إنهم كانوا في شك مريب فالفرح والسرور بالظفر بالمحبوب ، والهم والغم والحزن والأسف بفوات المحبوب ، فأطيب العيش عيش المحب الواصل إلى محبوبه ، وأمر العيش عيش من حيل بينه وبين محبوبه .
والاستتار المذكور لا يكون إلا بعد كشف وعيان ، والرب تعالى يستر عنهم ما يستره رحمة بهم ، ولطفا بضعيفهم ، إذ لو دام له حال الكشف لمحقه ، بل رحمة به من ربه أن رده إلى أحكام البشرية ، ومقتضى الطبيعة .
[ ص: 179 ] وأيضا ليتزايد طلبه ، ويقوى شوقه ، فإنه لو دامت له تلك الحال لألفها واعتادها ، ولم يقع منه موقع الماء من ذي الغلة الصادي ، ولا موقع الأمن من الخائف ، ولا موقع الوصال من المهجور ، فالرب سبحانه واراها عنه ليكمل فرحه ولذته وسروره بها .
وأيضا فليعرفه سبحانه قدر نعمته بما أعطاه وخلع عليه ، فإنه لما ذاق مرارة الفقد عرف حلاوة الوجود ، فإن الأشياء تتبين بأضدادها .
وأيضا فليعرفه فقره وحاجته وضرورته إلى ربه ، وأنه غير مستغن عن فضله وبره طرفة عين ، وأنه إن انقطع عنه إمداده فسد بالكلية .
وأيضا فليعرفه أن ذلك الفضل والعطاء ليس لسبب من العبد ، وأنه عاجز عن تحصيلها بكسب واختيار ، وأنها مجرد موهبة وصدقة تصدق الله بها عليه لا يبلغها عمله ولا ينالها سعيه .
وأيضا فليعرفه عزه في منعه ، وبره في عطائه ، وكرمه وجوده في عوده عليه بما حجب عنه ، فينفتح على قلبه من معرفة الأسماء والصفات بسبب هذا الاستتار والكشف بعده أمور غريبة عجيبة ، يعرفها الذائق لها ، وينكرها من ليس من أهلها .
وأيضا فإن الطبيعة والنفس لم يموتا ، ولم يعدما بالكلية ، ولولا ذلك لما قام سوق الامتحان والتكليف في هذا العالم ، بل قهرا بسلطان العلم والمعرفة والإيمان والمحبة ، والمقهور المغلوب لا بد أن يتحرك أحيانا وإن قلت ولكن حركة أسير مقهور بعد أن كانت حركته حركة أمير مسلط .
فمن تمام إحسان الرب إلى عبده ، وتعريفه قدر نعمته أن أراه في الأعيان ما كان حاكما عليه قاهرا له ، وقد تقاضى ما كان يتقاضاه منه أولا ، فحينئذ يستغيث العبد بربه ووليه ومالك أمره كله : يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ، يا مصرف القلوب صرف قلبي على طاعتك .
وأيضا فإنه يزيل من قلبه آفة الركون إلى نفسه ، أو عمله أو حاله ، كما قيل : إن ركنت إلى العلم أنسيناكه ، وإن ركنت إلى الحال : سلبناك إياه ، وإن ركنت إلى المعرفة : حجبناها عنك ، وإن ركنت إلى قلبك : أفسدناه عليك ، فلا يركن العبد إلى شيء سوى الله ألبتة ، ومتى وجد قلبه ركونا إلى غيره : فليعلم أنه قد أحيل على مفلس ، بل معدم ، وأنه قد فتح له الباب مكرا ، فليحذر ولوجه ، والله المستعان .
[ ص: 180 ] قوله : وهي الظلمة التي قالوا : إنها مقام .
يعني : أن وحشة الاستتار ظلمة . وقد قال قوم : إنها مقام .
ووجهه : أن الرب سبحانه يقيم عبده بحكمته فيها ، لما ذكرناه من الحكم والفوائد ، وغيرها مما لم نذكره .
فبهذا الاعتبار تكون مقاما ، ولكن صاحب هذا المقام : أنفاسه أنفاس حزن وأسف ، وهلاك وتلف ، لما حجب عنه من المقام الذي كان فيه .
والشيخ كأنه لا يرى ذلك مقاما ، فإن المقامات هي منازل في طريق المطلوب فكل أمر أقيم فيه السالك من حاله الذي يقدمه إلى مطلوبه : فهو مقام ، وأما وحشة الاستتار : فهي تأخر في الحقيقة لا تقدم ، فكيف تسمى مقاما ؟ بل هي ضد المقام .
ومما يدل على أن وحشة الاستتار ليست مقاما : أن كل مقام فهو تعلق بالحق سبحانه على وجه الثبوت ، وحقيقته : بأن يكون العبد بالمقيم لا بالمقام .
وأما حال الاستتار : فهو حال انقطاع عن ذلك التعلق المذكور .
والتحقيق في ذلك : أن له وجهين ؛ هو من أحدهما : ظلمة ووحشة . ومن الثاني : مقام ، فهو باعتبار الحال وباعتبار نفسه ليس مقاما ، وباعتبار المآل وما يترتب عليه وما فيه من تلك الحكم والفوائد المذكورة : فهو مقام ، وبالله التوفيق .