فصل
قال : والنفس الثاني :
نفس في حين التجلي ، وهو نفس شاخص عن مقام السرور إلى روح المعاينة ، مملوء من نور الوجود ، شاخص إلى منقطع الإشارة .
هذا النفس أعلى من الأول ، فإن الأول في حين استتار وظلمة ، وهذا نفس في حال تجل ونوره ، وحين التجلي : هو زمان حصول الكشف ، والتجلي مشتق من الجلوة ، قيل : وحقيقته إشراق نور الحق على قلوب المريدين .
فإن أرادوا إشراق نور الذات فغلط شنيع منهم ، ولهذا قال : احترز منهم عن ذلك " إشراق نور الصفات " .
فإن أرادوا أيضا إشراق نفس الصفة فغلط كذلك ، فإن التجلي الذاتي
[ ص: 181 ] والصفاتي لا يقع في هذا العالم ، ولا تثبت له القوى البشرية .
والحق أنه إشراق نور المعرفة والإيمان ، واستغراق القلب في شهود الذات المقدسة وصفاتها استغراقا علميا ، نعم هو أرفع من العلم المجرد لأسباب .
منها : قوته ، فإن المعارف والعلوم تتفاوت .
ومنها : صفاء المحل ونقاؤه من الكدر المانع من ظهور العلم والمعرفة فيه .
ومنها : التجرد عن الموانع والشواغل .
ومنها : كمال الالتفات والتحديق نحو المعروف المشهود .
ومنها : كمال الأنس به والقرب منه إلى غير ذلك من الأسباب التي توجب للقلب شهودا وكشفا وراء مجرد العلم .
قوله : وهو نفس شاخص عن مقام السرور ؛ أي : صادر عن مقام السرور ، و " الشخوص " الخروج ، يقال : شخص فلان إلى بلد كذا ؛ إذا خرج إليه .
والمقصود : أن هذا النفس صدر عن سرور وفرح ، بخلاف الأول ، فإنه صدر عن ظلمة ووحشة أثارت حزنا ، فهذا النفس صدر عن سماع الإجابة الذي يمحو آثار الوحشة .
قوله : " إلى روح المعاينة " هو بفتح الراء ، وهو النعيم والراحة التي تحصل بالمعاينة ضد الألم والوحشة الحاصلين في حين الاستتار ، فهذا النفس مصدره السرور ، ونهايته روح المعاينة صادرا عن مسرة ، طالبا المعاينة .
وأصح ما يحمل عليه كلام الشيخ ، وأمثاله من أهل الاستقامة في المعاينة أنها تزايد العلم حتى يصير يقينا ، ولا يصل أحد إلى عين اليقين في هذه الدار .
وإن خالف في ذلك من خالف ، فالغلط من لوازم الطبيعة ، والعلم يميز بين الغلط والصواب .
وقد أشعر كلام الشيخ هاهنا بأن التجلي دون المعاينة ، فإن التجلي قد يكون من وراء ستر رقيق وحاجز لطيف ، والكشف والعيان هو الظهور من غير ستر ، فإذا كان مسرورا بحال التجلي كانت أنفاسه متعلقة بمقام المعاينة الذي هو فوق مقام التجلي ، ولهذا جعله شاخصا إليها .
قوله : " مملوء من نور الوجود " يريد : أن هذا النفس مملوء من نور الوجود ، و " الوجود " عنده : هو حضرة الجمع ، فكأنه يقول : هذا النفس منصبغ مكتس بنور الوجود ، فإن صاحبه لما تنفس به كان في مقام الجمع والوجود .
[ ص: 182 ] قوله : " شاخص إلى منقطع الإشارة " لما كان قلبه مملوءا من نور الوجود وكان شاخصا إلى المعاينة مستفرغا بكليته في طلبها ، كان شاخصا إلى حضرة الجمع ، التي هي منقطع الإشارة عندهم ، فضلا عن العبارة ، فلا إشارة هناك ولا عبارة ولا رسم ، بل تفنى الإشارات وتعجز العبارات ، وتضمحل الرسوم .