قال : وهو على ثلاث
درجات . الدرجة الأولى : تمكن المريد ؛ وهو أن يجتمع له صحة قصد يسيره ، ولمع شهوده يحمله ، وسعة طريق تروحه .
المريد في اصطلاحهم : هو الذي قد شرع في السير إلى الله ، وهو فوق العابد ودون الواصل ، وهذا اصطلاح بحسب حال السالكين ، وإلا فالعابد مريد ، والسالك مريد ، والواصل مريد ، فالإرادة لا تفارق العبد ما دام تحت حكم العبودية .
وقد ذكر الشيخ
للتمكن في هذه الدرجة ثلاثة أمور : صحة قصد ، وصحة علم ، وسعة طريق ، فبصحة القصد يصح سيره ، وبصحة العلم تنكشف له الطريق ، وبسعة الطريق يهون عليه السير ، وكل طالب أمر من الأمور فلا بد له من تعين مطلوبه ، وهو المقصود ، ومعرفة الطريق الموصل إليه ، والأخذ في السلوك ، فمتى فاته واحد من هذه الثلاث : لم يصح طلبه ولا سيره ، فالأمر دائر بين مطلوب يتعين إيثاره على غيره ، وطلب يقوم بقصد من يقصده ، وطريق توصل إليه .
فإذا تحقق العبد بطلب ربه وحده : تعين مطلوبه ، فإذا بذل جهده في طلبه صح له طلبه ، فإذا تحقق باتباع أوامره واجتناب نواهيه صح له طريقه ، وصحة القصد والطريق موقوفة على صحة المطلوب وتعينه .
فحكم القصد يتلقى من حكم المقصود ، فمتى كان المقصود أهلا للإيثار كان القصد المتعلق به كذلك ، فالقصد والطريق تابعان للمقصود .
وتمام العبودية : أن يوافق الرسول صلى الله عليه وسلم في مقصوده وقصده وطريقه ، فمقصوده :
[ ص: 206 ] الله وحده ، وقصده : تنفيذ أوامره في نفسه وفي خلقه ، وطريقه : اتباع ما أوحي إليه ، فصحبه الصحابة رضي الله عنهم على ذلك حتى لحقوا به ، ثم جاء التابعون لهم بإحسان ، فمضوا على آثارهم .
ثم تفرقت الطرق بالناس ، فخيار الناس من وافقه في المقصود والطريق ، وأبعدهم عن الله ورسوله من خالفه في المقصود والطريق ؛ وهم أهل الشرك بالمعبود ، والبدعة في العبادة ، ومنهم من وافقه في المقصود وخالفه في الطريق ، ومنهم من وافقه في الطريق وخالفه في المقصود .
فمن كان مراده الله والدار الآخرة فقد وافقه في المقصود ، فإن عبد الله بما به أمر على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم فقد وافقه في الطريق ، وإن عبده بغير ذلك فقد خالفه في الطريق .
ومن كان مقصوده من أهل العلم ، والعبادة ، والزهد في الدنيا الرياسة ، فقد خالفه في المقصود ، وإن تقيد بالأمر .
فإن لم يتقيد به ، فقد خالفه في المقصود والطريق .
فإذا عرف هذا ، فقول الشيخ " تمكن المريد : أن يجتمع له صحة قصد يسيره " إشارة إلى صحة القصد .
وقوله : " ولمع شهود يحمله " إشارة إلى معرفة المقصود ، وقوة اليقين ، فيحصل لقلبه كشف يحمله على سلوكه ، فإن السالك إذا كشف له عن مقصوده حتى كأنه يعاينه جد في طلبه ، وذهبت عنه رخص الفتور .
وقوله : " وسعة طريق تروحه " إشارة إلى صحة طريقه ، وذلك بأمرين : بسعتها حتى لا تضيق عليه ، فيعجز عن سلوكها ، وباستقامتها حتى لا يزيغ عنها إلى غيرها ، فإن طريق الحق واسعة مستقيمة ، وطرق الباطل ضيقة معوجة ، وهذا يدل على رسوخ الشيخ في العلم ، ووقوفه مع السنة ، وفقهه في هذا الشأن .