مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
قال الشيخ : " المشاهدة : سقوط الحجاب بتا " أي : قطعا ، بحيث لا يبقى منه شيء ، والمشاهدة هي المسقطة للحجاب ، وهي التي تكون عند سقوط الحجاب ، وليست هي نفس سقوط الحجاب ، لكن عبر عن الشيء بلازمه ، فإن سقوط الحجاب يلازم حصول المشاهدة .

قوله : " وهي فوق المكاشفة " هذا يدلك على أن مراد الشيخ ومن وافقه من أهل الاستقامة بالمكاشفة والمشاهدة قوة اليقين ، ومزيد العلم ، وارتفاع الحجب المانعة من ذلك ، لا نفس معاينة الحقيقة ، فإن المكاشفة لو كانت هي معاينة الحقيقة ، لما كان فوقها مرتبة أخرى ، وإنما كانت المشاهدة عنده فوق المكاشفة لما ذكره من قوله ؛ لأن المكاشفة ولاية النعت ، وفيه شيء من بقايا الرسم ، والمشاهدة ولاية العين والذات .

يريد : أن المكاشفة تتعلق بالصفات الإلهية ، فولايتها ولاية النعوت والأوصاف ؛ أي : سلطانها وما يتعلق به ، هو النعوت والصفات وسلطان المشاهدة وما يتعلق به ، هو نفس الذات الجامعة للنعوت والصفات ، فلذلك كانت فوقها ، وأكمل منها .

والفرق بين ولاية النعت وولاية العين والذات أن النعت صفة ، ومن شاهد الصفة فلا بد أن يشاهد متعلقاتها ، فإن النظر في متعلقاتها يكسبه التعظيم للمتصف بها ، فإن من شاهد العلم القديم الأزلي متعلقا بسائر المعلومات التي لا تتناهى من واجب ، وممكن ، ومستحيل ومن شاهد الإرادة الموجبة لسائر الإرادات على تنوعها من الأفعال والأعيان والحركات والأوصاف التي لا تتناهى وشاهد القدرة التي هي كذلك ، وشاهد صفة الكلام ، الذي لو أن البحر يمده من بعده سبعة أبحر ، وأشجار العالم كلها أقلام يكتب بها كلام الرب جل جلاله ، لفنيت البحار ، ونفدت [ ص: 220 ] الأقلام ، وكلام الله عز وجل لا ينفد ولا يفنى .

فمن شاهد الصفات كذلك ، وجال قلبه في عظمتها فهو مشغول بالصفات ، ومتفرق قلبه في متعلقاتها في أنفسها ، بخلاف من قصر نظره على نفس الذات ، وشاهد قدمها وبقاءها ، واستغرق قلبه في عظمة تلك الذات ، بقطع النظر عن صفاتها ، فهو مشاهد للعين ، والأول مشاهد للصفات ، فالأول في فرق ، وهذا في جمع ، فمن استغرق قلبه في هذا المشهد استحق اسم المشاهد ، ووصف المشاهدة عند القوم إذا غاب عن إدراك رسمه ، وكل ما فيه من علم أو عمل أو حال ، هذا تقرير كلامه .

وبعد ، فإن ولاية ! النعوت والصفات التي جعلها دون ولاية العين والذات ليس الأمر فيها كما زعم ، بل لا نسبة بينهما ألبتة ، فإن الله سبحانه وتعالى دعا عباده في كتبه الإلهية إلى الأول دون الثاني ، وبذلك نطقت كتبه ورسله ، فهذا القرآن من أوله إلى آخره إنما يدعو الناس إلى النظر في صفات الله وأفعاله وأسمائه ، دون الذات المجردة ، فإن الذات المجردة لا يلحظ معها وصف ، ولا يشهد فيها نعت ، ولا تدل على كمال ولا جلال ، ولا يحصل من شهودها إيمان ، فضلا عن أن يكون من أعلى مقامات العارفين .

ويا سبحان الله ! أين يقع شهود صفات الكمال وتنوعها وكثرتها ، وما تدل عليه من عظمة الموصوف بها وجلاله وكماله ، وأنه ليس كمثله شيء في كماله ؛ لكثرة أوصافه ونعوته وأسمائه ، وامتناع أضدادها عليه ، وثبوتها له على أكمل الوجوه الذي لا نقص فيه بوجه ما من شهود ذات قد غاب مشاهدها عن كل صفة ونعت واسم ؟ !

فبين هذين المشهدين من التفاوت ما لا يحصيه إلا الله ، وهذا هو مشهد من تأله وفني من الجهمية والمعطلة صرحوا بذلك ، وقالوا : إن كمال هذا المشهد هو قصر النظر القلبي على عين الذات ، وتنزيهها عن الأعراض والأبعاض والأغراض والحدود والجهات .

ومرادهم بالأعراض : الصفات التي تقوم بالحي ، كالسمع والبصر ، والقدرة والإرادة ، والكلام ، فلا سمع له ولا بصر ، ولا إرادة ، ولا حياة ولا علم ، ولا قدرة .

ومرادهم بالأبعاض : أنه لا وجه له ولا يدان ، ولم يخلق آدم بيده ، ولا يطوي سماواته بيده ، ولا يقبض الأرض باليد الأخرى ، ولا يمسك السماوات على إصبع ولا الأرضين على إصبع ، ولا الشجر على إصبع ، ونحو ذلك مما أخبر به عن نفسه وأخبر به عنه رسوله الصادق صلى الله عليه وسلم .

[ ص: 221 ] ومرادهم بالأغراض : أنه لا يفعل لحكمة ، ولا لعلة غائية ، ولا سبب لفعله ، ولا غاية مقصودة .

ومرادهم بالحدود والجهات : مسألة المباينة والعلو ، وأنه غير بائن عن خلقه ، ولا مستو على عرشه ، ولا ترفع إليه الأيدي ، ولا تصعد إليه الأعمال ، ولا ينزل من عنده شيء ، ولا يصعد إليه شيء ، وليس فوق العرش إله يعبد ، ولا رب يصلى له ويسجد ، بل ليس هناك إلا العدم المحض الذي هو لا شيء !

فكمال الشهود عندهم : أن يشهد العبد ذاتا مجردة عن كل اسم ووصف ونعت .

وشيخ الإسلام عدو هذه الطائفة ، وهو بريء منهم براءة الرسل منهم ، ولكن بقيت عليه مثل هذه البقية ، وهي جعل مشهد العين والذات فوق مشهد الصفات على أنه لا سبيل للقوى البشرية إلى شهود الذات الإلهية ألبتة ، ولا يقع الشهود على تلك الحقيقة ، ولا جعل ذلك إليها ، وإنما إليها شهود الصفات والأفعال ، وأما حقيقة الذات والعين : فغير معلومة للبشرية ، ولما سأل المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حقيقة ربه سبحانه : من أي شيء هو ؟ أنزل الله عز وجل قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ولذلك لما سأل فرعون موسى عن حقيقة ربه ، بقوله : وما رب العالمين أجابه موسى بقوله : رب السماوات والأرض وما بينهما إذ لا وصول للبشر إلى حقيقة ذاته ، فدلهم على نفسه بصفاته الثبوتية ؛ من كونه صمدا ، وصفاته السلبية المتضمنة للثبوت ؛ من كونه " لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد " لم يجعل لهم سبيلا إلى معرفة الذات والكنه .

فما هذا الشهود العيني الذاتي الذي جعلتموه للمشاهد ، وجعلتموه فوق [ ص: 222 ] المكاشفة ، وجعلتم ولاية المكاشفة النعت وولاية المشاهدة العين ؟

فاعلم أن مراد الشيخ وأمثاله من العارفين أهل الاستقامة : أن لا يقصر نظر القلب على صفة من الصفات ، بحيث يستغرق فيها وحدها ، بل يكون التفاته وشهوده واقعا على الذات الموصوفة بصفات الكمال المنعوتة بنعوت الجلال ، فحينئذ يكون شهوده واقعا على الذات والصفات جميعا .

ولا ريب أن هذا فوق مشهد الصفة الواحدة أوالصفات .

ولكن يقال : الشهود لا يقع على الصفة المجردة ، ولا يصح تجردها في الخارج ولا في الذهن ، بل متى شهد الصفة شهد قيامها بالموصوف ولا بد ، فما هذا الشهود الذاتي الذي هو فوق الشهود الوصفي ؟

والأمر يرجع إلى شيء واحد ، وهو أن من كان بصفات الله أعرف ولها أثبت ، ومعارض الإثبات منتف عنده كان أكمل شهودا ، ولهذا كان أكمل الخلق شهودا من قال : لا أحصي ثناء عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك ، ولكمال معرفته بالأسماء والصفات : استدل بما عرفه منها على أن الأمر فوق ما أحصاه وعلمه .

فمشهد الصفات : مشهد الرسل والأنبياء وورثتهم ، وكل من كان بها أعرف كان بالله أعلم ، وكان مشهده بحسب ما عرف منها ، وليس للعبد في الحقيقة مشاهدة ولا مكاشفة ، لا للذات ولا للصفات ، أعني مشاهدة عيان وكشف عيان ، وإنما هو مزيد إيمان وإيقان .

ويجب التنبه هاهنا على أمر ، وهو : أن المشاهدة نتائج العقائد ، فمن كان معتقده ثابتا في أمر من الأمور ، فإنه إذا صفت نفسه وارتاضت ، وفارقت الشهوات والرذائل ، وصارت روحانية تجلت لها صورة معتقدها كما اعتقدته ، وربما قوي ذلك التجلي حتى يصير كالعيان ، وليس به ، فيقع الغلط من وجهين .

أحدهما : ظن أن ذلك ثابت في الخارج ، وإنما هو في الذهن ، ولكن لما صفا الارتياض وانجلت عنه ظلمات الطبع ، وغاب بمشهوده عن شهوده ، واستولت عليه أحكام القلب ، بل أحكام الروح ظن أنه الذي ظهر له في الخارج ، ولا تأخذه في ذلك لومة لائم ، ولو جاءته كل آية في السماوات والأرض ، وذلك عنده بمنزلة من عاين الهلال ببصره جهرة ، فلو قال له أهل السماوات والأرض : لم تره ، لم يلتفت إليهم .

[ ص: 223 ] ولعمر الله إنا لا نكذبه فيما أخبر به عن رؤيته ، ولكن إنما نوقن أنه إنما رأى صورة معتقده في ذاته ونفسه ، لا الحقيقة في الخارج ، فهذا أحد الغلطين .

وسببه : قوة ارتباط حاسة البصر بالقلب ، فالعين مرآة القلب شديدة الاتصال به ، وتنضم إلى ذلك قوة الاعتقاد ، وضعف التمييز ، وغلبة حكم الهوى والحال على العلم ، وسماعه من القوم : أن العلم حجاب .

والغلط الثاني : ظن أن الأمر كما اعتقده ، وأن ما في الخارج مطابق لاعتقاده ،

فيتولد من هذين الغلطين مثل هذا الكشف والشهود .

ولقد أخبر صادق الملاحدة ، القائلين بوحدة الوجود : أنهم كشف لهم أن الأمر كما قالوه ، وشهدوه في الخارج كذلك عيانا ، وهذا الكشف والشهود : ثمرة اعتقادهم ونتيجته ، فهذه إشارة ما إلى الفرقان في هذا الموضع ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية