مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
فصل

ولما كان سؤال الله الهداية إلى الصراط المستقيم أجل المطالب ، ونيله أشرف المواهب : علم الله عباده كيفية سؤاله ، وأمرهم أن يقدموا بين يديه حمده والثناء عليه ، وتمجيده ، ثم ذكر عبوديتهم وتوحيدهم ، فهاتان وسيلتان إلى مطلوبهم ، توسل إليه بأسمائه وصفاته ، وتوسل إليه بعبوديته ، وهاتان الوسيلتان لا يكاد يرد معهما الدعاء ، ويؤيدهما الوسيلتان المذكورتان في حديثي الاسم الأعظم اللذين رواهما ابن حبان في صحيحه ، والإمام أحمد و الترمذي .

أحدهما : حديث عبد الله بن بريدة عن أبيه قال " سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يدعو ، ويقول : اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك الله الذي لا إله إلا أنت ، الأحد الصمد ، الذي لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفوا أحد ، فقال : والذي نفسي بيده ، لقد سأل الله باسمه الأعظم ، الذي إذا دعي به أجاب ، وإذا سئل به أعطى " قال الترمذي : حديث صحيح .

فهذا توسل إلى الله بتوحيده ، وشهادة الداعي له بالوحدانية ، وثبوت صفاته المدلول عليها باسم الصمد وهو كما قال ابن عباس : " العالم الذي كمل علمه ، القادر الذي كملت قدرته " ، وفي رواية عنه : " هو السيد الذي قد كمل فيه جميع أنواع السؤدد " ، وقال أبو وائل : " هو السيد الذي انتهى سؤدده " ، وقال سعيد بن جبير : هو الكامل في جميع صفاته وأفعاله وأقواله ، وبنفي التشبيه والتمثيل عنه بقوله " ولم يكن له كفوا أحد " وهذه ترجمة عقيدة أهل السنة ، والتوسل بالإيمان بذلك ، والشهادة به هو الاسم الأعظم .

والثاني : حديث أنس " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يدعو : اللهم إني أسألك بأن لك الحمد ، لا إله إلا أنت ، المنان ، بديع السماوات والأرض ، ذا الجلال والإكرام ، يا حي يا قيوم ، فقال : لقد سأل الله باسمه الأعظم "فهذا توسل إليه بأسمائه وصفاته .

[ ص: 48 ] وقد جمعت الفاتحة الوسيلتين ، وهما التوسل بالحمد ، والثناء عليه وتمجيده ، والتوسل إليه بعبوديته وتوحيده ، ثم جاء سؤال أهم المطالب ، وأنجح الرغائب وهو الهداية بعد الوسيلتين ، فالداعي به حقيق بالإجابة .

ونظير هذا دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يدعو به إذا قام يصلي من الليل ، رواه البخاري في صحيحه من حديث ابن عباس " اللهم لك الحمد ، أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن ، ولك الحمد ، أنت قيوم السماوات والأرض ومن فيهن ، ولك الحمد ، أنت الحق ، ووعدك الحق ، ولقاؤك حق ، والجنة حق ، والنار حق ، والنبيون حق ، والساعة حق ، ومحمد حق ، اللهم لك أسلمت ، وبك آمنت ، وعليك توكلت ، وإليك أنبت ، ولك خاصمت ، وإليك حاكمت ، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت ، وما أسررت وما أعلنت ، أنت إلهي لا إله إلا أنت " فذكر التوسل إليه بحمده والثناء عليه وبعبوديته له ، ثم سأله المغفرة .

التالي السابق


الخدمات العلمية