فصل
قال : الحياة الثانية :
حياة الجمع من موت التفرقة ، ولها ثلاثة أنفاس : نفس الاضطرار ، ونفس الافتقار ، ونفس الافتخار .
ومراده إن شاء الله بالجمع في هذه الدرجة : جمع القلب على الله ، وجمع الخواطر والعزوم في التوجه إليه سبحانه ، لا الجمع الذي هو حضرة الوجود ؛ لأنه قد ذكر حياة هذا الجمع في الدرجة الثالثة ، وسماها حياة الوجود .
وإنما كان جمع القلب على الله والخواطر على السير إليه حياة حقيقية ؛ لأن القلب لا سعادة له ، ولا فلاح ولا نعيم ، ولا فوز ولا لذة ، ولا قرة عين إلا بأن يكون الله وحده هو غاية طلبه ، ونهاية قصده ، ووجهه الأعلى هو كل بغيته ، فالتفرقة
[ ص: 270 ] المتضمنة للإعراض عن التوجه إليه ، واجتماع القلب عليه هي مرضه إن لم يمت منها .
قال : ولهذه الحياة ثلاثة أنفاس ، نفس الاضطرار ؛ وذلك لانقطاع أمله مما سوى الله ، فيضطر حينئذ بقلبه وروحه ونفسه وبدنه إلى ربه ضرورة تامة ، بحيث يجد في كل منبت شعرة منه فاقة تامة إلى ربه ومعبوده ، فهذا النفس نفس مضطر إلى ما لا غنى له عنه طرفة عين ، وضرورته إليه من جهة كونه ربه ، وخالقه وفاطره وناصره ، وحافظه ومعينه ورازقه ، وهاديه ومعافيه ، والقائم بجميع مصالحه ، ومن جهة كونه معبوده وإلهه ، وحبيبه الذي لا تكمل حياته ولا تنفع إلا بأن يكون هو وحده أحب شيء إليه ، وأشوق شيء إليه ، وهذا الاضطرار هو اضطرار " إياك نعبد " والاضطرار الأول : اضطرار " إياك نستعين " .
ولعمر الله إن نفس الافتقار هو هذا النفس ، أو من نوعه ، ولكن الشيخ جعلهما نفسين ، فجعل نفس الاضطرار بداية ، ونفس الافتقار توسطا ، ونفس الافتخار نهاية ، وكأن نفس الاضطرار يقطع الخلق من قلبه ، ونفس الافتقار يعلق قلبه بربه .
والتحقيق : أنه نفس واحد ممتد ، أوله انقطاع ، وآخره اتصال .
وأما نفس الافتخار فهو نتيجة هذين النفسين ؛ لأنهما إذا صحا للعبد حصل له القرب من ربه ، والأنس به ، والفرح به ، وبالخلع التي خلعها ربه على قلبه وروحه مما لا يقوم لبعضه ممالك الدنيا بحذافيرها ، فحينئذ يتنفس نفسا آخر ، يجد به من التفريج والترويح والراحة والانشراح ما يشبه من بعض الوجوه بنفس من جعل في عنقه حبل ليخنق به حتى يموت ، ثم كشف عنه وقد حبس نفسه ، فتنفس نفس من أعيدت عليه حياته ، وتخلص من أسباب الموت .
فإن قلت : ما للعبد والافتخار ؟ وأين العبودية من نفس الافتخار ؟
قلت : لا يريد بذلك أن العبد يفتخر بذلك ، ويختال على بني جنسه ، بل هو فرح وسرور لا يمكن دفعه عن نفسه بما فتح عليه ربه ، ومنحه إياه ، وخصه به ، وأولى ما فرح به العبد فضل ربه عليه ؛ فإنه تعالى يحب أن يرى أثر نعمته على عبده ، ويحب الفرح بذلك ؛ لأنه من الشكر ، ومن لا يفرح بنعمة المنعم لا يعد شكورا ، فهو افتخار بما هو محض منة الله ونعمته على عبده ، لا افتخار بما من العبد ، فهذا هو الذي ينافي العبودية لا ذاك .
[ ص: 271 ] وهنا سر لطيف ، وهو أن هذا النفس يفخر على أنفاسه التي ليست كذلك ، كما تفخر الحياة على الموت ، والعلم على الجهل ، والسمع على الصمم ، والبصر على العمى ، فيكون الافتخار للنفس على النفس ، لا للمتنفس على الناس ، والله أعلم .