فصل
قال : الحياة الثالثة :
حياة الوجود . وهي حياة بالحق ، ولها ثلاثة أنفاس : نفس الهيبة ، وهو يميت الاعتدال . ونفس الوجود ، وهو يمنع الانفصال . ونفس الانفراد وهو يورث الاتصال ، وليس وراء ذلك ملحظ للنظارة ، ولا طاقة للإشارة .
هذه المرتبة من الحياة هي حياة الواجد ، وهي أكمل من النوعين اللذين قبلها ، ووجود العبد لربه هو الذي أشار إليه في الحديث الإلهي بقوله :
nindex.php?page=hadith&LINKID=980664فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها ، فبي يسمع ، وبي يبصر ، وبي يبطش ، وبي يمشي والمشار إليه في قوله :
ابن آدم ، اطلبني تجدني ، فإن وجدتني وجدت كل شيء ، وإن فتك فاتك كل شيء .
وسيأتي في باب الوجود مزيد لهذا إن شاء الله تعالى .
وإنما كانت حياة الوجود أكمل الحياة ، لشرفها وكمالها بموجدها ؛ وهو الحق سبحانه وتعالى ، فمن حبي بوجوده فقد فاز بأعلى أنواع الحياة .
فإن قلت : يصعب علي فهم معنى الحياة بوجوده .
قلت : لأجل الحجاب الذي ضرب بينك وبين هذه الحياة ، فافهم الحياة بوجود الفناء ، وبوجود المالك القادر إذا كان معك وناصرك ، دون مجرد وجوده ولا معرفة بينك وبينه ألبتة فحقيقة الحياة : هي الحياة بالرب تعالى ، لا الحياة النفس والفناء وأسباب العيش .
وقد تفسر " حياة الوجود " بشهود القيومية ، حيث لا يرى شيئا من الأشياء إلا وهو بالله ، وهو الذي أقامه ، وبحال هذا الشهود ، وهو أن لا يلتفت بقلبه إلى شيء سوى الله ، ولا يخافه ولا يرجوه ، بل قد قصر خوفه ورجاءه ، وتوكله وإنابته على الحي القيوم ، قيوم الوجود وقيمه وقيامه ومقيمه وحده ، فمتى حصل له هذا الشهود وهذا الحال ، فقد حصلت له حياة الوجود .
[ ص: 272 ] فتارة يتنفس بالهيبة ، وهي سطوة نور الصفات ، وذلك عند أول ما يسطع نور الوجود ، فيقع القلب في هيبة تستغرق حسه عن الالتفات إلى شيء من عوالم النفس ، وذلك هو الاعتلال الذي يميته النفس الثاني ، وهو قوله : " ونفس يميت الاعتلال " فتموت منه علل أعماله ، وآثار حظوظه ، وشهود إنيته .
قوله : " ونفس الوجود " يريد به : وجود العبد بربه ، فيتنفس بهذا الوجود ، كما يسمع به ، ويبصر به ، ويبطش به ، ويمشي به .
ولا تصغ إلى غير هذا ، فتزل قدم بعد ثبوتها .
قوله : " وهو يمنع الانفصال " الانفصال عند القوم : انقطاع القلب عن الرب وبقاؤه بنفسه وطبيعته ، و " الاتصال " هو بقاؤه بربه ، وفناؤه عن أحكام نفسه ، وطبعه وهواه ، وقد يراد ب " الاتصال " الفناء في شهود القيومية ، وب " الانفصال " الغيبة عن هذا الشهود .
وأما الملحد : فيفسر الاتصال ، والانفصال بالاتصال الذاتي والانفصال الذاتي ، وهذا محال أيضا ، فإنه لم يزل متصلا به ، بل لم يزل إياه عنده ، فالأول : يتعلق بالإرادة والهمة ، وهو أعلى الأنواع . والثاني : يتعلق بالشهود والشعور ، وهو دونه ، وهو عند الشيخ أعلى ؛ لأنه إنما يكون في وادي الفناء .
والثالث : للملاحدة القائلين بوحدة الوجود .
قوله : ونفس الانفراد ، وهو يورث الاتصال .
نفس الانفراد : هو المصحوب بشهود الفردانية ، وهي تفرد الرب سبحانه بالربوبية والإلهية ، والتدبير والقيومية ، فلا يثبت لسواه قسطا في الربوبية ، ولا يجعل لسواه حظا في الإلهية ، ولا في القيومية ، بل يفرده بذلك في شهوده ، كما أفرده به في علمه ، ثم يفرده به في الحال التي أوجبها له الشهود ، فيكون الله سبحانه فردا في علم العبد ومعرفته ، فردا في شهوده ، فردا في حاله في شهوده .
وهذا النفس يورثه الاتصال بربه ، بحيث لا يبقى له مراد غيره ، ولا إرادة غير مراده الديني الذي يحبه ويرضاه ، فيستفرغ حبه قلبه ، وتستفرغ مرضاته سعيه ، وليس وراء ذلك مقام يلحظه النظارة ، لا بالقلب ولا بالروح .
[ ص: 273 ] فإن كمال هذا الاتصال ، والشغل بالحق سبحانه : قد استفرغ المقامات ، واستوعب الإشارات ، والله المستعان .