[ ص: 280 ] فصل البسط
قال صاحب المنازل :
( باب البسط ) قال الله تعالى :
يذرؤكم فيه .
قلت : وجه تعلقه بإشارة الآية : هو أن الله سبحانه يعيشكم فيما خلق لكم من الأنعام المذكورة . قال
الكلبي : يكثركم في هذا التزويج ، ولولا هذا التزويج لم يكثر النسل ، والمعنى : يخلقكم في هذا الوجه الذي ذكر من جعله لكم أزواجا ، فإن سبب خلقنا وخلق الحيوان : بالأزواج ، والضمير في قوله : " فيه " يرجع إلى الجعل ، ومعنى الذرء : الخلق ، وهو هنا الخلق الكثير ، فهو خلق وتكثير ، فقيل " في " بمعنى الباء ؛ أي : يكثركم بذلك ، وهذا قول الكوفيين ، والصحيح : أنها على بابها ، والفعل تضمن معنى ينشئكم وهو يتعدى بفي ، كما قال تعالى :
وننشئكم في ما لا تعلمون فهذا تفسير الآية .
ولما كانت الحياة حياتين : حياة الأبدان ، وحياة الأرواح ، وهو سبحانه الذي يحيي قلوب أوليائه وأرواحهم بإكرامه ولطفه وبسطه كان ذلك تنمية لها وتكثيرا وذرءا ، والله أعلم .
قال صاحب المنازل : البسط : أن يرسل شواهد العبد في مدارج العلم ، ويسبل على باطنه رداء الاختصاص ، وهم أهل التلبيس ، وإنما بسطوا في ميدان البسط ، بعد ثلاث معان ، لكل معنى طائفة .
يريد : أن البسط إرسال ظواهر العبد وأعماله على مقتضى العلم ، ويكون باطنه مغمورا بالمراقبة والمحبة والأنس بالله ، فيكون جماله في ظاهره وباطنه ، فظاهره قد اكتسى الجمال بموجب العلم ، وباطنه قد اكتسى الجمال بالمحبة والرجاء والخوف والمراقبة والأنس ، فالأعمال الظاهرة له دثار ، والأحوال الباطنة له شعار ، فلا حاله ينقص عليه ظاهر حكمه ، ولا علمه يقطع وارد حاله ، وقد جمع سبحانه بين الجمالين
[ ص: 281 ] أعني جمال الظاهر وجمال الباطن في غير موضع من كتابه .
منها : قوله تعالى :
يابني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير .
ومنها : قوله تعالى في نساء الجنة :
فيهن خيرات حسان فهن حسان الوجوه ، خيرات الأخلاق .
ومنها : قوله تعالى :
ولقاهم نضرة وسرورا فالنضرة جمال الوجوه ، والسرور جمال القلوب .
ومنها : قوله تعالى :
وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة فالنضرة تزين ظواهرهم ، والنظر يجمل بواطنهم .
ومنها : قوله تعالى :
وحلوا أساور من فضة وسقاهم ربهم شرابا طهورا فالأساور جملت ظواهرهم ، والشراب الطهور طهر بواطنهم .
ومنها : قوله تعالى :
إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب وحفظا من كل شيطان مارد فجمل ظاهرها بالكواكب ، وباطنها بالحراسة من الشياطين .
رجعنا إلى شرح كلامه .
قوله : " وهم أهل التلبيس " يعني : أنهم المذكورون في باب القبض وهم الفرقة الثانية الذين ستروا بلباس التلبيس عن أعين الناس . فلا ترى حقائقهم .
قوله : " وإنما بسطوا في ميدان البسط " أي : بسطهم الحق سبحانه على لسان رسوله ، لا ما يظنه الملحد أنه السماع الشهي ، وملاحظة المنظر البهي ، ورؤية الصور المستحسنات ، وسماع الآلات المطربات .
نعم هذا ميدان بسطه الشيطان يقتطع به النفوس عن الميدان الذي نصبه الرحمن ، فميدان الرحمن الذي بسطه هو الذي نصبه لأنبيائه وأوليائه ، وهو ما كان
[ ص: 282 ] عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه وأهله ، ومع الغريب والقريب ، وهي سعة الصدر ، ودوام البشر ، وحسن الخلق ، والسلام على من لقيه ، والوقوف مع من استوقفه ، والمزاح بالحق مع الصغير والكبير أحيانا ، وإجابة الدعوة ، ولين الجانب حتى يظن كل واحد من أصحابه أنه أحبهم إليه ، وهذا الميدان لا تجد فيه إلا واجبا ، أو مستحبا ، أو مباحا يعين عليهما .
قوله : فطائفة بسطت رحمة للخلق ، يباسطونهم ويلابسونهم ، فيستضيئون بنورهم ، والحقائق مجموعة ، والسرائر مصونة .
جعل الله انبساطهم مع الخلق رحمة لهم ، كما قال تعالى :
فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فالرب سبحانه بسط هؤلاء مع خلقه ؛ ليقتدي بهم السالك ، ويهتدي بهم الحيران ، ويشفى بهم العليل ، ويستضاء بنور هدايتهم ونصحهم ومعرفتهم في ظلمات دياجي الطبع والهوى ، فالسالكون يقتدون بهم إذا سكتوا ، وينتفعون بكلماتهم إذا نطقوا ، فإن حركاتهم وسكونهم لما كانت بالله ولله وعلى أمر الله جذبت قلوب الصادقين إليهم ، وهذا النور الذي أضاء على الناس منهم هو نور العلم والمعرفة .
والعلماء ثلاثة : عالم استنار بنوره واستنار به الناس ، فهذا من خلفاء الرسل وورثة الأنبياء ، وعالم استنار بنوره ، ولم يستنر به غيره ، فهذا إن لم يفرط كان نفعه قاصرا على نفسه ، فبينه وبين الأول ما بينهما ، وعالم لم يستنر بنوره ولا استنار به غيره ، فهذا علمه وبال عليه ، وبسطته للناس فتنة لهم ، وبسطة الأول رحمة لهم .
قوله : " والحقائق مجموعة ، والسرائر مصونة " أي : انبسطوا والحقائق التي في سرائرهم مجموعة في بواطنهم ، فالانبساط لم يشتت قلوبهم ، ولم يفرق هممهم ، ولم يحل عقد عزائمهم .
قوله : " وسرائرهم مصونة " مستورة لم يكشفوها لمن انبسطوا إليه ، وإن كان البسط يقتضي الإلف ، واطلاع كل من المتباسطين على سر صاحبه ، فإياك ثم إياك أن تطلع من باسطته على سرك مع الله ، ولكن اجذبه وشوقه ، واحفظ وديعة الله عندك ، لا تعرضها للاسترجاع .
[ ص: 283 ] قال : وطائفة بسطت لقوة معاينتهم ، وتصميم مناظرهم ؛ لأنهم طائفة لا تخالج الشواهد مشهودهم ، ولا تضرب رياح الرسوم موجودهم ، فهم مبسوطون في قبضة القبض ،
إنما كانت هذه الدرجة أعلى مما قبلها ؛ لأن ما قبلها لأرباب الأعمال ، وهذه لأرباب الأحوال ، بسطت الأولى : رحمة للخلق ، وبسطت هذه : اختصاصا بالحق .
وقوله : " لقوة معاينتهم " إما أن يكون المعنى : لقوة إدراك معاينتهم ، أو لقوة ظهور معاينتهم لبواطنهم ، أو لقوتها وبيانها في نفسها .
والمعنى : أنه لا يطمع البسط أن يحجبهم عن معاينة مطلوبهم ؛ لأن قوة المعاينة منعت وصول البسط إلى إزالتها وإضعافها .
قوله : " وتصميم مناظرهم " يعني ثبات مناظر قلوبهم وصحتها ، فليسوا ممن يحول بين نظر قلوبهم وبين ما تراه قتر من شك ، ولا غيم من ريب ، فاللطيفة الإنسانية المدركة لحقيقة ما أخبروا به من الغيب صحيحة ، وهي شديدة التوجه إلى مشهودها ، فلم يقدر البسط على حجبها عن مشهودها .
قوله : " لأنهم طائفة لا تخالج الشواهد مشهودهم " أي : لا تمازج الشواهد مشهودهم ، فيكون إدراكهم بالاستدلال ، بل مشهودهم حاضر لهم ، لم يدركوه بغيره ، فلا تخالط مشاهدتهم له شواهد من غيره ، والشواهد مثل الأمارات والعلامات .
وهذا الكلام يحتاج إلى شرح وبيان وتفصيل .
فإن
الله سبحانه أقام الشواهد عليه ، وملأ بها كتابه ، وهدى عباده إلى النظر فيها والاستدلال بها ، ولكن العارف إذا حصل له منها الدلالة ، ووصل منها إلى اليقين انطوى حكمها عن شهوده ، وسافر قلبه منها إلى المطلوب المدلول عليه بها ، ورآها كلها أثرا من آثار أسمائه وصفاته وأفعاله ، المشهود المدلول عليه بها معاينة القلب والبصيرة للصانع إذا عاين صنعته ، فكأنه يرى الباني وهو يبني ما شاهده من البناء المحكم المتقن ؛ لأن الشواهد والأدلة تبطل ويبطل حكمها .
فتأمل هذا الموضع ، فإنه قد غلط فيه فريقان : فريق أساءوا الظن بمن طوى حكم الشواهد والأدلة ، ونسبوهم إلى ما نسبوهم إليه ، وفريق رأوا أن الشواهد نفس
[ ص: 284 ] المشهود ، والدليل عين المدلول عليه ، ولكن كان في الابتداء شاهدا ودليلا ، وفي الانتهاء مشهودا ومدلولا .
قوله : " ولا تضرب رياح الرسوم موجودهم " شبه الرسوم بالرياح ؛ لأن معاني الصور الخلقية تمر على أهل الشهود الضعيف ، فتحرك بواطنهم بنوع من الشك والريب ، فهؤلاء الذين بسطهم الحق تعالى سالمون من ذلك .
قوله : " فهم منبسطون في قبضة القبض " أي : هم في حال انبساطهم غير محجوبين عن معاني القبض ، بل هم مبسوطون بقبضه إياهم عن غيره ، فلا يتنافى في حقهم البسط والقبض ، بل قبضهم إليه في بسطهم ، وبسطهم به في قبضهم ، وجعل للقبض قبضة ترشيحا للاستعارة .
قال : وطائفة بسطت أعلاما على الطريق ، وأئمة للهدى ، ومصابيح للسالكين .
إنما كانت هذه الفرقة أعلى من الفرقتين ؛ لأنها شاركتهما في درجتيهما ، واختصت عنهما بهذه الدرجة ، فاتصفت بما اتصفت به الأولى من الأعمال ، واتصفت بما اتصفت به الثانية من الأحوال ، وزادت عليهما بالنفع للسالكين ، والهداية للحائرين ، والإرشاد للطالبين ، فاهتدى بهم الحائر ، وسار بهم الواقف . واستقام بهم الحاند ، وأقبل بهم المعرض ، وكمل بهم الناقص ، ورجع بهم الناكص ، وتقوى بهم الضعيف ، وتنبه على المقصود من هو في الطريق ، وهؤلاء هم خلفاء الرسل حقا ، وهم أولو البصر واليقين ، فجمعوا بين البصيرة والبصر ، قال الله تعالى :
وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون فنالوا إمامة الدين ، بالصبر واليقين .