فصل الانفصال
قال صاحب المنازل : ( باب الانفصال ) قال الله تعالى :
ويحذركم الله نفسه ليس في المقامات شيء فيه من التفاوت ما في الانفصال .
وجه الإشارة بالآية : أنه سبحانه المقرب المبعد ، فليحذر القريب من الإبعاد والمتصل من الانفصال ، فإن الحق جل جلاله غيور لا يرضى ممن عرفه ووجد حلاوة معرفته ، واتصل قلبه بمحبته والأنس به ، وتعلقت روحه بإرادة وجهه الأعلى أن يكون له التفات إلى غيره ألبتة .
ومن غيرته سبحانه : حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ،
والله سبحانه يغار أشد الغيرة على عبده : أن يلتفت إلى سواه ، فإذا أذاقه حلاوة محبته ، ولذة الشوق إليه ، وأنس معرفته ، ثم ساكن غيره باعده من قربه ، وقطعه من وصله ، وأوحش سره ، وشتت قلبه ، ونغص عيشه ، وألبسه رداء الذل والصغار والهوان ، فنادى عليه حاله ، إن لم يصرح به قاله : هذا جزاء من تعوض عن وليه وإلهه وفاطره ، ومن لا حياة له إلا به بغيره وآثر غيره عليه ، فاتخذ سواه له حبيبا ، ورضي بغيره أنيسا ، واتخذ سواه وليا ، قال الله تعالى :
وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا .
[ ص: 308 ] فإذا ضرب هذا القلب بسوط البعد والحجاب ، وسلط عليه من يسومه سوء العذاب ، وملئ من الهموم والغموم والأحزان ، وصار محلا للجيف والأقذار والأنتان ، وبدل بالأنس وحشة ، وبالعز ذلا ، وبالقناعة حرصا ، وبالقرب بعدا وطردا ، وبالجمع شتاتا وتفرقة كان هذا بعض جزائه ، فحينئذ تطرقه الطوارق والمؤلمات ، وتعتريه وفود الأحزان والهموم بعد وفود المسرات .
قرأ قارئ بين يدي
السري :
وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا فقال
السري : تدرون ما هذا الحجاب ؟ هو حجاب الغيرة ، ولا أحد أغير من الله . فمن عرفه وذاق حلاوة قربه ومحبته ، ثم رجع عنه إلى مساكنة غيره : ثبط جوارحه عن طاعته ، وعقل قلبه عن إرادته ومحبته ، وأخره عن محل قربه ، وولاه ما اختاره لنفسه .
وقال بعضهم : احذره ، فإنه غيور ، لا يحب أن يرى في قلب عبده سواه .
ومن غيرته : أن صفيه
آدم لما ساكن بقلبه الجنة ، وحرص على الخلود فيها أخرجه منها ، ومن غيرته سبحانه : أن
إبراهيم خليله لما أخذ
إسماعيل شعبة من قلبه أمره بذبحه ، حتى يخرج من قلبه ذلك المزاحم .
إنما
كان الشرك عنده ذنبا لا يغفر لتعلق قلب المشرك به وبغيره ، فكيف بمن تعلق قلبه كله بغيره ، وأعرض عنه بكليته ؟
إذا أردت أن تعرف ما حل بك من بلاء الانفصال ، وذل الحجاب ، فانظر لمن استعبد قلبك ، واستخدم جوارحك ، وبمن شغل سرك ، وأين يبيت قلبك إذا أخذت مضجعك ؟ وإلى أين يطير إذا استيقظت من منامك ؟ فذلك هو معبودك وإلهك ، فإذا سمعت النداء يوم القيامة : لينطلق كل واحد مع من كان يعبده ، انطلقت معه كائنا من كان .
لا إله إلا الله ! ما أشد غبن من باع أطيب الحياة في هذه الدار المتصلة بالحياة الطيبة هناك ، والنعيم المقيم بالحياة المنغصة المنكدة المتصلة بالعذاب الأليم ، والمدة ساعة من نهار ، أو عشية أو ضحاها ، أو يوم أو بعض يوم ، فيه ربح الأبد أو خسارة الأبد .
فما هي إلا ساعة ثم تنقضي ويذهب هذا كله ويزول