[ ص: 309 ] فصل
قال الشيخ : ليس في المقامات شيء فيه من التفاوت ما في الانفصال .
يعني : أن بين درجات المقامات تناسب ، واختلاف يسير .
ومقام الانفصال قليل التناسب في درجاته ، كثير التفاوت ، كما سنذكره .
قال : ووجوهه ثلاثة ، أحدها : انفصال هو شرط الاتصال ، وهو الانفصال عن الكونين بانفصال نظرك إليهما ، وانفصال توقفك عليهما ، وانفصال مبالاتك بهما .
يعني : أن انفصال العبد عن رسومه بالفناء ، هو شرط اتصال وجوده بالبقاء ، فلا ولاء لله ورسوله إلا بالبراء مما يضاد ذلك ويخالفه ، وقد قال إمام الحنفاء لقومه :
إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني ، وقال الفتية :
وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فلم تعتزلوه .
وهذه العبارة التي ذكرها الشيخ في بادئ الرأي لا تخلو عن إنكار حتى يبين معناها والمراد بها ، فإن الكونين عبارة عن جميع ما خلقه الله في الدنيا والآخرة ، ويعبر عنهما بعالم الغيب وعالم الشهادة ، وفيهما الرسل والأنبياء ، والملائكة والأولياء ، فكيف ينفصل عنهم ولا ينظر إليهم ، ولا يقف بقلبه عليهم ، ولا يبالي بهم ؟
فاعلم أن في لسان القوم من الاستعارات ، وإطلاق العام وإرادة الخاص ، وإطلاق اللفظ وإرادة إشارته دون حقيقة معناه : ما ليس في لسان أحد من الطوائف غيرهم ، ولهذا يقولون : نحن أصحاب إشارة لا أصحاب عبارة ، والإشارة لنا والعبارة لغيرنا ، وقد يطلقون العبارة التي يطلقها الملحد ، ويريدون بها معنى لا فساد فيه ، وصار هذا سببا لفتنة طائفتين : طائفة تعلقوا عليهم بظاهر عباراتهم ، فبدعوهم وضللوهم ، وطائفة نظروا إلى مقاصدهم ومغزاهم ، فصوبوا تلك العبارات ، وصححوا تلك الإشارات ، فطالب الحق يقبله ممن كان ، ويرد ما خالفه على من كان .
ومراد الشيخ وأهل الاستقامة : أن النفس لما كانت مائلة إلى الملذوذات المحسوسة والمعنوية المشاهدة المعاينة كان النظر إليها والوقوف معها علة في الطريق والقصد جميعا ، وكان شاغلا لها عن النظر إلى المقصود وحده ، والوقوف معه دون
[ ص: 310 ] غيره ، والالتفات إليه دون ما سواه ، فمتى قوي تعلق القلب بالمقصود الأعلى ، بحيث يشغله ذكره عن ذكر غيره ، وحبه عن حب غيره ، وخوفه عن خوف غيره ، ورجاؤه عن رجاء غيره ، وكان أنسه به خاصة انفصل عن ذكر غيره في حال شغله به سبحانه ؛ إذ ليس فيه اتساع لغيره ، فانفصل في هذه الحال نظره إلى الكونين ، وانفصل توقفه عليهما ، وانفصلت مبالاته بهما ضرا أو نفعا ، أو عطاء أو منعا ، وهذه الحال لا تدوم ، فإذا رجع إلى الكون بحكم طبيعته ، وأنه جزء من الكون ذكر الرسل والأنبياء والملائكة والأولياء بالتعظيم والاحترام ، وأحسن الذكر ، وذكر أعداءهم باللعن وأقبح الذكر - فهذه وظيفته في هذه الحال ، وتلك وظيفته في ذلك المقام .
والمقصود : أنه انفصال شهود في الأحوال ، لا انفصال وجود ، ولا انفصال شهود دائما أبدا ، ولا تلتفت إلى غير هذا ، فإنه خيال وخبال ووهم ، لا نطيل الكتاب بذكره .
قال : الثاني : انفصال عن رؤية الانفصال الذي ذكرناه ، وهو أن لا يتراءى عندك في شهود التحقيق شيء يوصل بالانفصال منهما إلى شيء .
إنما كانت هذه الدرجة أعلى عنده مما قبلها ، من حيث كانت الأولى وسيلة إليها ، وكانت هذه غاية لها ومرتبة عليها ، فإن المنفصل من الكونين شغلا بالله عز وجل قد تسكن نفسه إلى مقامه من الانفصال ، ويساكنه بسره وقلبه ، ويغيب عنه أنه محض منة الله ، ومجرد عطائه ، فيحتاج إلى أن ينفصل عن رؤية انفصاله ، ويضيف ذلك إلى أهله ووليه المان به .
وهذا التفصيل يتضمن التفاوت الذي أشار إليه الشيخ في أول الباب ، فإنه ذكر في الدرجة الأولى أن الانفصال شرط في الاتصال ، وقال هاهنا : " لا يتراءى عندك في شهود التحقيق سبب يوصل بالانفصال منهما إلى شيء " وهذا يناقض ما ذكره ، ولا يجتمع معنى كلاميه ، بل بينهما تفاوت التناقض ، فأين شرط حصول الشيء من شهود عدم كونه سببا وشرطا ؟
والجواب عن هذا : أن كون الشيء شرطا وسببا لحصول شيء لا يناقض أن يكون عدم رؤيته شرطا لحصول ذلك الشيء ، فيكون حصوله مشروطا بوجود ذلك الشيء في نفس الأمر ، وبعدم رؤية العبد له ، فتكون الرؤية مانعة ، وإيضاح ذلك ببيان كلامه .
[ ص: 311 ] فقوله : " انفصال عن رؤية الانفصال " يعني : أن العبد يرى حالة الشهود أنه انفصل عن الكونين ، ثم اتصل بجناب العزة ، فيشهد اتصالا بعد انفصال ، وهذه الرؤية في التحقيق ليست صحيحة ؛ لأنه لم ينفصل عن الكونين أصلا ، لكنه توهم ذلك ، فإذا تبين أنه لم ينفصل عن الكونين فقد انفصل عن الانفصال المذكور ، لتحققه أنه لم يكن صحيحا .
ثم بين كيف يصح له انفصال عن انفصاله بقوله : أن لا يتراءى ؛ أي : لا يظهر لك شيء في شهود التحقيق يكون هو السبب الموجب للاتصال ، فكأنه قال : أن تشهد التحقيق ، فيريك شهوده : أنك ما انفصلت بنفسك عن شيء ، ولا اتصلت بنفسك بشيء ، بل الأمر كله بيد غيرك ، فهو الذي فصلك وهو الذي وصلك .
وأما الملحد : فيفسر كلامه بغير هذا ، ويقول : إذا شهدت الحقيقة أرتك أنك ما انفصلت من شيء ، ولا اتصلت بشيء ، فإن تلك اثنينية تنافي الوحدة المطلقة .
فانظر ما في الألفاظ المجملة الاصطلاحية من الاحتمال ، وكيف يجرها كل أحد إلى نحلته ومذهبه ؟ ولهذا يقول الملحد : إنه ليس هناك اتصال ولا انفصال إنما هو في نظر العبد ووهمه فقط ، فإذا صار من أهل التحقيق علم بعد ذلك أنه لا انفصال ولا اتصال ، وينشد في هذا المعنى بيتا مشهورا لطائفة الاتحادية :
فما فيك لي شيء لشيء موافق ولا منك لي شيء لشيء مخالف
قال : الثالث : انفصال عن الاتصال ، وهو انفصال عن شهود مزاحمة الاتصال عين السبق ، فإن الانفصال والاتصال على عظم تفاوتهما في الاسم والرسم في العلة سيان .
الفرق بين هذه الدرجة والتي قبلها : أن ما قبلها انفصال عن سكونه إلى انفصاله ورؤيته له ، وهو في هذه الدرجة انفصال عن رؤية اتصاله ، فيتجرد عن رؤية كونه متصلا ، فإن هذه الرؤية علة في الاتصال ، بل كمال الاتصال غيبته عن رؤية كونه متصلا ، لكمال استغراقه بما هو فيه من حقيقة الاتصال ، فيحصل من الدرجتين انفصاله عن الانفصال والاتصال معا .
فهاهنا جال الملحد وصال ، وفتح فاه ناطقا بالإلحاد ، وقال : هذا يدل على أن الانفصال والاتصال لا حقيقة لهما في نفس الأمر بل في نظر الناظر ، فلا حقيقة
[ ص: 312 ] لهما في نفس الأمر ، لكن في وهم المكاشف ، فأين الاتصال والانفصال في العين الواحدة ؟ إنما الوهم والخيال قد حكما على أكثر الخلق .
وقد أعاذ الله الشيخ من أن يظن به هذا الإلحاد ، وإنما مراده ما ذكرناه .
وقد كشف عن مراده بقوله : " وهو انفصال عن شهود مزاحمة الاتصال عين السبق " أي : ينفصل عن شهود مزاحمته لاتصاله عما سبق في الأزل من الأول الآخر سبحانه ، فإنه إذا لاحظ السبق وما تقرر فيه ، حيث لم يكن هو ولا شيء من الأشياء لم يزاحم شهود اتصاله لشهود ما سبق له به الأزل ، بل اضمحل فعله وشهوده ووجوده إلى ذلك الوجود الأزلي ، بحيث كأنه لم يكن ، فإذا نسب فعله وصفاته ووجوده إلى ذلك الوجود اضمحل وتلاشى ، وصار كالظل والخيال للشخص .
قوله : فإن الاتصال والانفصال على عظم تفاوتهما في الاسم والرسم في العلة سيان .
معناه : أن معنى اسم الاتصال يضاد اسم الانفصال كما يضاد اسمه اسمه ، وهما متساويان في العلة ؛ أي : رؤية الاتصال علة ، ورؤية الانفصال علة ، فتساويا من هذا الوجه ، وإن تضادا لفظا ومعنى ، والله سبحانه وتعالى أعلم .