فصل الفناء
قال صاحب المنازل : (
باب الفناء ) قال الله تعالى كل من عليها فان .
ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام .
[ ص: 343 ] الفناء المذكور في الآية : ليس هو الفناء الذي تشير إليه الطائفة ، فإن الفناء في الآية الهلاك والعدم ، أخبر سبحانه أن كل من على الأرض يعدم ويموت ، ويبقى وجهه سبحانه ، وهذا مثل قوله
إنك ميت وإنهم ميتون ومثل قوله
كل نفس ذائقة الموت قال
الكلبي ومقاتل : لما نزلت هذه الآية قالت الملائكة : هلك أهل الأرض ، فلما قال تعالى
كل شيء هالك إلا وجهه أيقنت الملائكة بالهلاك ، قال
nindex.php?page=showalam&ids=14577الشعبي : إذا قرأت
كل من عليها فان فلا تسكت حتى تقرأ
ويبقى وجه ربك ذو الجلال وهذا من فقهه في القرآن وكمال علمه ، إذ المقصود : الإخبار بفناء من عليها مع بقاء وجهه سبحانه ، فإن الآية سيقت لتمدحه بالبقاء وحده ، ومجرد فناء الخليقة ليس فيه مدحه ، إنما المدح في بقائه بعد فناء خلقه ، فهي نظير قوله
كل شيء هالك إلا وجهه .
[ ص: 344 ] وأما الفناء الذي تترجم عنه الطائفة : فأمر غير هذا ، ولكن وجد الإشارة بالآية : أن الفناء المشار إليه هو ذهاب القلب ، وخروجه من هذا العالم وتعلقه بالعلي الكبير الذي له البقاء فلا يدركه الفناء ، ومن فني في محبته وطاعته وإرادة وجهه أوصله هذا الفناء إلى منزل البقاء ، فالآية تشير إلى أن العبد حقيق أن لا يتعلق بمن هو فان ، ويذر من له البقاء ، وهو ذو الجلال والإكرام ، فكأنها تقول : إذا تعلقت بمن هو فان انقطع ذلك التعلق عند فنائه أحوج ما تكون إليه ، وإذا تعلقت بمن هو باق لا يفنى لم ينقطع تعلقك ودام بدوامه .
والفناء الذي يترجم عليه هو غاية التعلق ونهايته ، فإنه انقطاع عما سوى الرب تعالى من كل وجه ، ولذلك قال :
" الفناء في هذا الباب : اضمحلال ما دون الحق علما ، ثم جحدا ، ثم حقا " .
قلت : " الفناء " ضد " البقاء " ، والباقي : إما باق بنفسه من غير حاجة إلى من يبقيه ، بل بقاؤه من لوازم نفسه ، وهو الله تعالى وحده ، وما سواه فبقاؤه ببقاء الرب ، وليس له من نفسه بقاء ، كما أنه ليس له من نفسه وجود ، فإيجاده وإبقاؤه من ربه وخالقه ، وإلا فهو ليس له من نفسه إلا العدم قبل إيجاده ، والفناء بعد إيجاده .
وليس المعنى : أن نفسه وذاته اقتضت عدمه وفناءه ، وإنما الفناء أنك إذا نظرت إلى ذاته - بقطع النظر عن إيجاد موجده له - كان معدوما ، وإذا نظرت إليه بعد وجوده - مع قطع النظر عن إبقاء موجده له - استحال بقاؤه ، فإنه إنما يبقى بإبقائه ، كما أنه إنما يوجد بإيجاده ، فهذا معنى قولنا : إنه نفسه معدوم وفان ، فافهمه .
وقد اختلف الناس : هل
إفناء الموجود وإعدامه بخلق عرض فيه يسمى الفناء والإعدام ؟ أم بإمساك خلق البقاء له ، إذ هو في كل وقت محتاج إلى أن يخلق له بقاء يبقيه ؟ وهي مسألة الإعدام المشهورة .
والتحقيق فيها : أن ذاته لا تقتضي الوجود ، وهو معدوم بنفسه ، فإذا قدر الرب تعالى لوجوده أجلا ووقتا انتهى وجوده عند حضور أجله ، فرجع إلى أصله وهو العدم ، نعم قد يقدر له وقتا ثم يمحو سبحانه ذلك الوقت ، ويريد إعدامه قبل وقته ، كما أنه سبحانه يمحو ما يشاء ، ويريد استمرار وجوده بعد الوقت المقدر إلى أمد آخر ، فإنه
[ ص: 345 ] يمحو ما يشاء ويثبت ، قال الله تعالى حاكيا عن نبيه
نوح عليه السلام
قال ياقوم إني لكم نذير مبين أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى فإذا أراد الله سبحانه إبقاء الشيء أبقاه إلى حين يشاء ، وإذا أراد إفناءه أعدمه بمشيئته ، كما يوجده بمشيئته .
فإن قيل : متعلق المشيئة لابد أن يكون أمرا وجوديا ، فكيف يكون العدم متعلق المشيئة ؟
قيل : متعلق المشيئة أمران : إيجاد ، وإعدام ، وكلاهما ممكن ، فقول القائل لابد أن يكون متعلق المشيئة أمرا وجوديا دعوى باطلة ، نعم ، العدم المحض لا تتعلق به المشيئة ، وأما الإعدام : فهو أخص من العدم .
ولولا أنا في أمر أخص من هذا لبسطنا الكلام في هذه المسألة ، وذكرنا أوهام الناس وأغلاطهم فيها .
وقوله " الفناء اسم لاضمحلال ما دون الحق علما " يعني : يضمحل عن القلب والشهود علما ، وإن لم تكن ذاته فانية في الحال مضمحلة ، فتغيب صور الموجودات في شهود العبد ، بحيث تكون كأنها دخلت في العدم ، كما كانت قبل أن توجد ، ويبقى الحق تعالى ذو الجلال والإكرام وحده في قلب الشاهد ، كما كان وحده قبل إيجاد العوالم .
قوله " علما ، ثم جحدا ، ثم حقا " هذه الثلاثة هي مراتب الاضمحلال إذا ورد على العبد على الترتيب ، فإذا جاء وهلة واحدة لم يشهد شيئا من ذلك ، وإن كان قد يعرف ذلك إذا عاد إلى علمه وشهوده ، فإن الرب سبحانه إذا رقى عبده بالتدريج نور باطنه وعقله بالعلم ، فرأى أنه لا خالق سواه ، ولا رب غيره ، ولا يملك الضر والنفع والعطاء والمنع غيره ، وأنه لا يستحق أن يعبد - بنهاية الخضوع والحب - سواه ، وكل معبود سوى وجهه الكريم فباطل ، فهذا توحيد العلم .
[ ص: 346 ] ثم إذا رقاه الحق سبحانه درجة أخرى فوق هذه أشهده عود المفعولات إلى أفعاله سبحانه ، وعود أفعاله إلى أسمائه وصفاته ، وقيام صفاته بذاته ، فيضمحل شهود غيره من قلبه ، وجحد أن يكون لسواه من نفسه شيء البتة ، ولم يجحد السوي كما يجحده الملاحدة ، فإن هذا الجحود عين الإلحاد .
ثم إذا رقاه درجة أخرى ؛ أشهده قيام العوالم كلها - جواهرها وأعراضها ، ذواتها وصفاتها - به وحده ، أي بإقامته لها وإمساكه لها ، فإنه سبحانه يمسك السماوات والأرض أن تزولا ، ويمسك البحار أن تغيض أو تفيض على العالم ، ويمسك السماء أن تقع على الأرض ، ويمسك الطير في الهواء صافات ويقبضن ، ويمسك القلوب الموقنة أن تزيغ عن الإيمان ، ويمسك حياة الحيوان أن تفارقه إلى الأجل المحدود ، ويمسك على الموجودات وجودها ، ولولا ذلك لاضمحلت وتلاشت ، والكل قائم بأفعاله وصفاته التي هي من لوازم ذاته ، فليس الوجود الحقيقي إلا له ، أعني الوجود الذي هو مستغن فيه عن كل ما سواه ، وكل ما سواه فقير إليه بالذات ، لا قيام له بنفسه طرفة عين .
ولما كان للفناء مبدأ وتوسط وغاية ؛ أشار إلى
مراتبه الثلاثة ، فالمرتبة الأولى : فناء أهل العلم المتحققين به ، والثانية : فناء أهل السلوك والإرادة ، والثالثة : فناء أهل المعرفة ، المستغرقين في شهود الحق سبحانه .
فأول الأمر ، أن تفنى قوة علمه وشعوره بالمخلوقين في جنب علمه ومعرفته بالله وحقوقه ، ثم يقوى ذلك حتى يعدهم كالأموات وكالعدم ، ثم يقوى ذلك حتى يغيب عنهم ، بحيث يكلم ولا يسمع ، ويمر به ولا يرى ، وذلك أبلغ من حال السكر ، ولكن لا تدوم له هذه الحال ، ولا يمكن أن يعيش عليها .