قال : وهو على ثلاث درجات : بقاء المعلوم بعد سقوط العلم عينا لا علما ، وبقاء المشهود بعد سقوط الشهود وجودا لا نعتا ، وبقاء ما لم يزل حقا بإسقاط ما لم يكن محوا .
قلت : أما
بقاء المعلوم بعد سقوط العلم ، فقد يظهر في بادئ الأمر امتناعه ، إذ كونه معلوما - مع سقوط العلم به - جمع بين النقيضين ، وكأنه معلوم غير معلوم ، فإن المعلوم لا يكون معلوما إلا بالعلم ، فكيف يكون معلوما مع سقوطه ؟
وجواب هذا ، أن هنا أمرين :
أحدهما : وجود صورة المعلوم في قلب العالم ، وإدراكه لها وشعوره بها .
والثاني : علمه بعلمه وشعوره ، وهو أمر وراء حضور تلك الصورة ، وهذا في سائر المدارك ، فقد يرى الرائي الشيء ويسمعه ويشمه ، ويغيب عن علمه وشعوره بصفة نفسه التي هي إدراكه ، فيغيب بمدركه عن إدراكه ، وبمعلومه عن علمه وبمرئيه عن رؤيته ، فإن قلت : أوضح لي هذا لينجلي فهمه .
فاعلم أن هاهنا قوة مدركة له إذا تعلقت به صار معلوما مدركا ، فتولد من بين
[ ص: 358 ] هذين الأمرين حالة ثالثة ، تسمى " الشعور " و " العلم " و " الإدراك " .
مثال ذلك : ما يدركه بحاسة الذوق والشم ، فإنه لابد من وجود المدرك المذوق المشموم ، ولابد من قوة في الآلة والمحل المخصوص ، تقابل المدرك ، وتتعلق به ، فيتولد من بين الأمرين كيفية الشم والذوق ، وكذلك في الملموس والمسموع والمرئي ، فتمام الإدراك أن يحيط علما بهذه الأمور الثلاثة ، فيشعر بالمدرك ، وبالقوة المدركة ، وبحالة الإدراك ، فإذا استغرق القلب في شهوده المعلوم غاب به عن شهود القوة التي بها يعلم ، وعن حالة العلم ، ومثل هذا برجل أدرك بلمسه ما التذ به أعظم لذة حصلت له ، فاستغرقته تلك اللذة عما سواها ، فأسقطت شعوره بها دون وجودها ، ولهذا قال الشيخ " بقاء المعلوم بعد سقوط العلم عيانا لا علما " فعيانا حال من البقاء لا من السقوط أي بقاؤه وجودا لا نعتا ، فإنه في مرتبة العلم باق نعتا ووصفا ، وفي هذه المرتبة باق وجودا وعيانا لا علما مجردا .
وهذا وجه ثان في كلامه أنه يبقى وجوده وعينه لا مجرد العلم به ، فالعلم به لم يعدم ، ولكن انتقل العبد من وجود العلم إلى وجود المعلوم .
وكذلك قوله - في الدرجة الثانية - " وبقاء المشهود بعد سقوط الشهود وجودا لا نعتا " الشهود فوق العلم لأنه علم عيان ، فينتقل من مجرد الشهود إلى الوجود ، فيبقى المشهود موجودا له بعد أن كان مشهودا ، ومرتبة الوجود فوق مرتبة الشهود فإن الوجود حصول ذاتي ، والشهود حصول علمي ، وإن كان فوق العلم .
قوله في الدرجة الثالثة : " وبقاء من لم يزل حقا بإسقاط ما لم يكن محوا " ، أي يغلب على القلب سلطان الحقيقة ، ونور الجمع ، حتى ينطمس من قلبه أثر المخلوقات كما ينطمس نور الكواكب بطلوع الشمس ، ويبقى فيه تعظيم من لم يزل وذكره وحبه ، والاشتغال به لا بغيره .
فالدرجة الأولى : بقاء في مرتبة العلم ، والثانية : بقاء في مرتبة الشهود ، والثالثة : بقاء في مرتبة الوجود ، فهذا وجه .
ويمكن شرح كلامه على وجه آخر ، وهو : أن المعلوم يسقط شهود العلم ، فالعلم يسقط والمعلوم يثبت ، فالعبد إذا بقي بعد الفناء سقط علمه في مشهد عيانه بحيث تبقى مرتبة العلم عيانا ، فيسقط العلم بالعيان ، بحيث يصير عينا لا علما ، فإذا نظرت إلى العلم باعتبار العين - وهي حضرة الجمع - سقط العلم ، فإذا نظرت إليه باعتبار الفرق لم يسقط ، فسقوطه في حضرة الجمع ، وثبوته في مقام الفرق .
[ ص: 359 ] قوله : "
وبقاء المشهود بعد سقوط الشهود وجودا " ، يعني : بقاء الحق الذي هو المشهود بعد سقوط الشهود الذي هو المخلوق : كان المشهود صفة المشاهد ، والمشاهد وصفاته مخلوق ، ومشهوده سبحانه غير مخلوق ، كما أن علمه وذكره ومعرفته مخلوقة ، والمعلوم المذكور المعروف سبحانه غير مخلوق ، وإذا كان الموصوف قد فني ، وصفاته تابعة له في الفناء ، فيفنى شهوده ويبقى مشهوده .
قوله " وجودا لا نعتا " أي سقط وجود شهوده لا نعته والإخبار عنه .
قوله "
وبقاء ما لم يزل حقا بإسقاط ما لم يكن محوا " يوضح المراد من الدرجتين اللتين قبل ، ومعناه : بقاء الحق ، وفناء المخلوق ، والحق - سبحانه - لم يزل باقيا ، فلم يتجدد له البقاء ، والفناء المتعلق بالمخلوق فناؤهم في شهود المشاهد ، ومحو رسومهم من قلبه بالكلية ، لا فناؤهم في الخارج .
وحاصل ذلك : أن يفنى من قلبك إرادة السوى : وشهوده والالتفات إليه ، ويبقى فيه إرادة الحق وحده ، وشهوده والالتفات بالكلية إليه ، والإقبال بجمعيتك عليه ، فحول هذا يدندن العارفون ، وإليه يشمر السالكون ، وإن وسعوا له العبارات ، وصرفوا إليه القول ، والله أعلم .