مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
فصل التحقيق

قال : ( باب التحقيق ) قال الله تعالى أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي التحقيق : تلخيص مصحوبك من الحق ، ثم بالحق ، ثم في الحق ، وهذه أسماء درجاته الثلاث .

وجه تعلقه بإشارة الآية : أن إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - طلب الانتقال من الإيمان بالعلم بإحياء الله الموتى إلى رؤية تحقيقه عيانا ، فطلب - بعد حصول العلم الذهني - تحقيق الوجود الخارجي ، فإن ذلك أبلغ في طمأنينة القلب ، ولما كان بين العلم والعيان منزلة أخرى ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال رب أرني كيف تحي الموتى وإبراهيم لم يشك - صلى الله عليه وسلم - ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يشك ، ولكن أوقع اسم [ ص: 360 ] " الشك " على المرتبة العلمية باعتبار التفاوت الذي بينها وبين مرتبة العيان في الخارج ، وباعتبار هذه المرتبة سمي العلم اليقيني - قبل مشاهدة معلومه - ظنا ، قال تعالى الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم وأنهم إليه راجعون وقال تعالى الذين يظنون أنهم ملاقو الله وهذا الظن علم جازم ، كما قال تعالى واعلموا أنكم ملاقوه لكن بين الخبر والعيان فرق ، وفي المسند مرفوعا ليس الخبر كالعيان ولهذا لما أخبر الله موسى أنه قد فتن قومه ، وأن السامري أضلهم لم يحصل له من الغضب والكيفية وإلقاء الألواح ما حصل له عند مشاهدة ذلك .

إذا عرف هذا ، فقوله " التحقيق : تلخيص مصحوبك من الحق " هاهنا أربعة ألفاظ بتفسيرها يفهم مراده - إن شاء الله - .

أحدها : لفظ " التحقيق " وهو تفعيل من حقق الشيء تحقيقا ، فهو مصدر فعله [ ص: 361 ] حقق الشيء ، أي أثبته وخلصه من غيره .

الثانية : لفظ " التلخيص " ومعناه : تخليص الشيء من غيره ، فخلصه ولخصه يشتركان لفظا ومعنى ، وإن كان " التلخيص " أغلب ما في الذهن والتخليص أغلب على ما في الخارج ، فالتلخيص : تلخيص الشيء في الذهن ، بحيث لا يدخل فيه غيره ، والتخليص : إفراده في الخارج عن غيره .

الثالث : " المصحوب " وهو ما يصحب الإنسان في قصده ومعرفته من معلوم ومراد .

الرابع : " الحق " وهو الله سبحانه ، وما كان موصلا إليه ، مدنيا للعبد من رضاه .

إذا عرف هذا ، فمصحوب العبد من الحق هو معرفته ومحبته ، وإرادة وجهه الكريم ، وما يستعين به على الوصول إليه ، وما هو محتاج إليه في سلوكه ف " التحقيق " هو تخليصه من المفسدات القاطعة عنه ، الحائلة بين القلب وبين الموصل إليه ، وتحصينه من المخالطات ، وتخليصه من المشوشات ، فإن تلك قواطع له عن مصحوبه الحق ، وهي نوعان لا ثالث لهما : عوارض محبوبة ، وعوارض مكروهة .

فصاحب مقام التحقيق لا يقف مع العوارض المحبوبة ، فإنها تقطعه عن مصحوبه ومحبوبه ، ولا مع العوارض المكروهة ، فإنها قواطع أيضا ، ويتغافل عنها ما أمكنه ، فإنها تمر بالمكاثرة والتغافل مرا سريعا ، لا يوسع دوائرها ، فإنه كلما وسعها اتسعت ، ووجدت مجالا فسيحا ، فصالت فيه وجالت ، ولو ضيقها - بالإعراض عنها والتغافل - لاضمحلت وتلاشت ، فصاحب مقام التحقيق ينساها ويطمس آثارها ، ويعلم أنها جاءت بحكم المقادير في دار المحن والآفات .

قال لي شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - مرة : العوارض والمحن هي كالحر والبرد ، فإذا علم العبد أنه لابد منهما لم يغضب لورودهما ، ولم يغتم لذلك ولم يحزن .

فإذا صبر العبد على هذه العوارض ولم ينقطع بها ؛ رجا له أن يصل إلى مقام التحقيق ، فيبقى مع مصحوبه الحق وحده ، فتهذب نفسه ، وتطمئن مع الله ، وتنفطم عن عوائد السوء ، حتى تغمر محبة الله قلبه وروحه ، وتعود جوارحه متابعة للأوامر ، فيحس قلبه حينئذ بأن معية الله معه وتوليه له ، فيبقى في حركاته وسكناته بالله لا بنفسه ، وترد على قلبه التعريفات الإلهية ، وذلك إنما يكون في منزل البقاء بعد الفناء ، [ ص: 362 ] والظفر بالمحبة الخاصة ، ويشهد الإلهية والقيومية والفردانية ، فإن على هذه المشاهد الثلاثة مدار المعرفة والوصول .

والمقصود : أن صاحب مقام " التحقيق " يعرف الحق ، ويميز بينه وبين الباطل ، فيمسك بالحق ، ويلغي الباطل ، فهذه مرتبة ، ثم يتبين له أن ذلك ليس به ، بل بالله وحده ؛ فيبرأ حينئذ من حوله وقوته ، ويعلم أن ذلك بالحق ، ثم يتمكن في ذلك المقام ، ويرسخ فيه قلبه ، فيصير تحقيقه بالله وفي الله .

ففي الأول : يخلص له مطلوبه من غيره ، ويتجرد له من سواه .

وفي الثاني : يخلص له إضافته إلى غيره ، وأن يكون سواه سبحانه .

وفي الثالث : تجرد له شهوده وقصوره ، بحيث صارت في مطلوبه .

فالأول : سفر إلى الله ، والثاني : سفر بالله ، والثالث : سفر في الله .

وإن أشكل عليك معنى السفر فيه والفرق بينه وبين السفر إليه ففرق بين حال العابد الزاهد السائر إلى الله ، الذي لم يفتح له في الأسماء والصفات والمعرفة الخاصة ، وبين حال العارف الذي قد كشف له في معرفة الأسماء والصفات والفقه فيها ما حجب عن غيره .

قوله : " أما الدرجة الأولى - وهي تخليص مصحوبك من الحق - : فأن لا يخالج علمك علمه " يعني : أنك كنت تنسب العلم إلى نفسك قبل وصولك إلى مقام التحقيق ففي حالة التحقيق تعود نسبته إلى معلمه ومعطيه الحق ، ولعل هذا معنى قول الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، إذ جمعهم الرب تبارك وتعالى وقال ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا قيل : قالوه تأدبا معه سبحانه ، إذ ردوا العلم إليه ، وقيل : معناه لا علم لنا بحقيقة الباطن ، وإنما أجابنا من أجابنا ظاهرا ، والباطن غيب ، وأنت علام الغيوب .

والتحقيق - إن شاء الله - أن علومهم تلاشت في علمه سبحانه واضمحلت ، فصارت بالنسبة إليه كلا علم ، فردوا العلم كله إلى وليه وأهله ، ومن هو أولى به ، فعلومهم وعلوم الخلائق جميعهم في جنب علمه تعالى كنقرة عصفور في بحر من بحار العالم ، و " المخالجة " المنازعة .

[ ص: 363 ] قوله : " وأما الدرجة الثانية : فأن لا ينازع شهودك شهوده ، هذا قريب من المعنى الأول ، والمعنى : أن الشهود الذي كنت تنسبه إلى نفسك قبل الفناء تصير بعد تنسبه إليه سبحانه ، لا إليك .

قوله " الدرجة الثالثة : أن لا يناسم رسمك سبقه " الرسم عندهم : هو الشخص وهو محدث مخلوق ، والرب تعالى هو القديم الخالق ، فإذا تحقق العبد بالحقيقة ؛ شهد الحق وحده منفردا عن خلقه ، فلم يناسم رسمه سبق الحق وأوليته ، والمناسمة كالمشامة ، يقال : ناسمه ، أي شامه ، فاستعار الشيخ اللفظة لأدنى المقاربة والملابسة ، أي لا يداني رسمك سبقه ، ولو بأدنى مناسمة ، بل تشهد الحق وحده منفردا عن كل ما سواه .

وهم يشيرون بذلك إلى أمر ، وهو : أن الله سبحانه كان ولا شيء معه ، وهو الآن على ما عليه كان ، فأما اللفظ الأول وهو " كان الله ولا شيء معه " فهذا قد روي في الصحيح في بعض ألفاظ حديث عمران بن حصين رضي الله عنه ، وإن كان اللفظ الثابت كان الله ولم يكن شيء قبله وهو المطابق لقوله في الحديث الآخر الصحيح أنت الأول فليس قبلك شيء ولم يقل : فليس معك شيء .

وأما قوله " وهو الآن على ما كان عليه " فزيادة في الحديث ليست منه ، بل زادها بعض المتحذلقين ، وهي باطلة قطعا ، فإن الله مع خلقه بالعلم والتدبير والقدرة ، ومع أوليائه بالحفظ والكلاءة والنصرة ، وهم معه بالموافقة والمحبة ، وصارت هذه اللفظة [ ص: 364 ] مجنا وترسا للملاحدة من الاتحادية ، فقالوا : إنه لا وجود سوى وجوده أزلا وأبدا وحالا ، فليس في الوجود إلا الله وحده ، وكل ما تراه وتلمسه وتذوقه وتشمه وتباشره فهو حقيقة الله ، تعالى الله عن إفكهم علوا كبيرا .

وأما أهل التوحيد : فقد يطلقون هذه اللفظة ، ويريدون بها لفظا صحيحا ، وهو أن الله سبحانه لم يزل منفردا بنفسه عن خلقه ، ليس مخالطا لهم ، ولا حالا فيهم ، ولا ممازجا لهم ، بل هو بائن عنهم بذاته وصفاته .

وأما الشيخ وأرباب الفناء : فقد يعنون معنى آخر أخص من ذلك ، وهو المشار إليه بقوله " لا يناسم رسمك سبقه " أي لا ترى أنك معه بل تراه وحده ، ولهذا قال : فتسقط الشهادات ، وتبطل العبارات ، وتفنى الإشارات ، يعني : أنك إذا لم تشهد معه غيره ، وأسقطت الغير من الشهود ، لا من الوجود ، بخلاف ما يقول الملحد الاتحادي : إنك تسقط الغير شهودا ووجودا - سقطت الشهادات والعبارات والإشارات ؛ لأنها صفات العبد المحدث المخلوق ، والفناء يوجب إسقاطها .

والمعنى : أن الواصل إلى هذا المقام لا يرى مع الحق سواه ، فيمحو السوى في شهوده ، وعند الملحد يمحوه من الوجود ، والله أعلم وهو الموفق .

التالي السابق


الخدمات العلمية