فصل
قال : " والتلبيس الثاني : تلبيس أهل الغيرة على الأوقات بإخفائها ، وعلى الكرامات بكتمانها " .
إطلاق " التلبيس " على هذه الدرجة أولى من إطلاقه على الدرجة الأولى ، فإن
[ ص: 374 ] التلبيس في هذه الدرجة راجع إلى فعل العبد ، وفي الأولى إلى فعل الرب ، ولهذا لما كان تسمية الدرجة الأولى تلبيسا شنيعا جدا ، وطأ له بذكر قوله تعالى
وللبسنا عليهم ما يلبسون أي لا تستوحش من إطلاق ذلك على الله ، فإنه قد أطلقه على نفسه ، وقد عرفت ما فيه .
والمقصود : أن العبد يقوى إخلاصه لله ، وصدقه ومعاملته ، حتى لا يحب أن يطلع أحد من الخلق على حاله مع الله ومقامه معه ، فهو يخفي أحواله غيرة عليها من أن تشوبها شائبة الأغيار ، ويخفي أنفاسه خوفا عليها من المداخلة ، وكان بعضهم إذا غلبه البكاء ، وعجز عن دفعه قال : لا إله إلا الله ، ما أمر الزكام ! فالصادق إذا غلب عليه الوجد والحال ، وهاج من قلبه لواعج الشوق ؛ أخلد إلى السكون ما أمكنه ، فإن غلب ؛ أظهر ألما ووجعا ؛ يستر به حاله مع الله ، كما أظهر إبراهيم الخليل - صلى الله عليه وسلم - لقومه أنه سقيم ، حين أراد أن يفارقهم ، ويرجع بذلك الوارد وتلك الحال إلى الآلهة الباطلة ، فيجعلها جذاذا .
فالصادقون يعملون في كتمان المعاني ، واجتناب الدعاوي ، فظواهرهم ظواهر الناس ، وقلوبهم مع الحق تعالى ، لا تلتفت عنه يمنة ولا يسرة ، فهم في واد ، والناس في واد .
فقوله : " تلبيس أهل الغيرة على الأوقات بإخفائها " ، يعني : أنهم يغارون على الأوقات التي عمرت لهم بالله ، وصفت لهم أن يظهروها للناس ، وإن اطلع غيرهم عليها من غير قصدهم لكشفها وإظهارها ؛ لم يقدح ذلك في طريقهم فلا يفزعون إلى الجحد والإنكار ، وشكاية الحال ، بل يسعهم الإمساك عن الإظهار والجحد .
قوله : " وعلى الكرامات بكتمانها " ، يعني : أنهم يغارون على كراماتهم أن يعلم بها الناس ، فهم يخفونها أبدا غيرة عليها ، إلا إذا كان في إظهارها مصلحة راجحة ؛ من حجة أو حاجة ، فلا يظهرونها إلا لحجة على مبطل ، أو حاجة تقتضي إظهارها .
قوله : " والتلبيس بالمكاسب والأسباب معناه ، وتعليق الظواهر بالشواهد والمكاسب تلبيس على العيون الكليلة والعقول العليلة " ، يعني : أن التلبيس المذكور إنما يكون على العيون الكليلة ، أي أهل الإحساس الضعيف ، و " العقول العليلة " هي المنحرفة التي لا تدرك الحق لمرض بها .
[ ص: 375 ] قوله " مع تصحيح التحقيق عقدا وسلوكا ومعاينة " يعني : أن هذه الطائفة يلبسون على أهل العيون الكليلة أحوالهم وكراماتهم بسترهم لها عنهم ، مع كونهم قائمين بالتحقيق اعتقادا وسلوكا ومعاينة ، فهم معتقدون للحق ، سالكون الطريق الموصلة إلى المقصود ، أهل مراقبة وشهود .
قوله : " وهذه الطائفة : رحمة من الله على أهل التفرقة والأسباب في ملابستهم " .
وإنما كانوا رحمة من الله عليهم من وجهين ، أحدهما : أنهم ذاكرون الله بين الغافلين ، وفي وسطهم يرحمهم الله بهم ، فإنهم القوم لا يشقى بهم جليسهم ، الثاني : أنهم لا يتركونهم في غفلاتهم ، بل يقومون فيهم بالنصيحة لهم ، والأمر لهم بالمعروف والنهي عن المنكر ، والدعوة لهم إلى الله ، فيرحمون بهم ، وينالون بهم سعادة الدنيا والآخرة ، فهم يتصرفون مع الخلق بحكم العلم والشرع ، وأحوالهم ومقاماتهم بينهم وبين الله خاصة .