فصل
قال : " وأما
تفريد الإشارة بالحق : فعلى ثلاث درجات ، تفريد الإشارة بالافتخار بوحا ، وتفريد الإشارة بالسلوك مطالعة ، وتفريد الإشارة بالقبض غيرة .
ذكر أيضا في هذه الدرجة ثلاثة أمور : الافتخار ، والسلوك ، والقبض ، فالافتخار نوعان : مذموم ، ومحمود ، فالمذموم : إظهار مرتبته على أبناء جنسه ترفعا عليهم ، وهذا غير مراد ، والمحمود : إظهار الأحوال السنية ، والمقامات الشريفة ، بوحا بها ، أي تصريحا وإعلانا ، لا على وجه الفخر ، بل على وجه تعظيم النعمة ، والفرح بها ، وذكرها ، ونشرها ، والتحدث بها ، والترغيب فيها وغير ذلك من المقاصد في إظهارها ، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - :
nindex.php?page=hadith&LINKID=980587أنا سيد ولد آدم ولا فخر وأنا أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة ولا فخر وأنا أول شافع وأول مشفع ولا فخر وقال
nindex.php?page=showalam&ids=37سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه :
[ ص: 392 ] أنا أول من رمى بسهم في سبيل الله ، وقال
أبو ذر رضي الله عنه : لقد أتى علي كذا وكذا وإني لثالث الإسلام ، وقال
علي رضي الله عنه : إنه لعهد النبي الأمي إلي : أنه لا يحبني إلا مؤمن ، ولا يبغضني إلا منافق ، وقال
عمر رضي الله عنه : وافقت ربي في ثلاث ، وقال
علي رضي الله عنه - وأشار إلى صدره : إن هاهنا علما جما ، لو أصبت له حملة ، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=10عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : أخذت من في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبعين سورة ، وإن
زيدا ليلعب مع الغلمان ، وقال أيضا : ما من كتاب الله آية إلا وأنا أعلم أين نزلت ؟ وماذا أريد بها ؟ ولو أعلم أن أحدا أعلم بكتاب الله مني تبلغه الإبل لرحلت إليه ، وقال بعض الصحابة : لأن تختلف في الأسنة أحب إلي من أن أحدث
[ ص: 393 ] نفسي في الصلاة بغير ما أنا فيه ، وهذا أكثر من أن يذكر .
والصادق تختلف عليه الأحوال ، فتارة يبوح بما أولاه ربه ، ومن به عليه ، لا يطيق كتمان ذلك ، وتارة يخفيه ويكتمه ، لا يطيق إظهاره ، فتارة يقبض ، وتارة يبسط وينشط ، وتارة يجد لسانا قائلا لا يسكت ، وتارة لا يقدر أن ينطق بكلمة ، وتارة تجده ضاحكا مسرورا ، وتارة باكيا حزينا ، وتارة يجد جمعية لا سبيل للتفرقة عليها ، وتارة تفرقة لا جمعية معها ، وتارة يقول : واطرباه ! وأخرى يقول : واحرباه ! بخلاف من هو على لون واحد لا يوجد على غيره ، فهذا لون والصادق لون .
قوله : " وتفريد الإشارة بالسلوك مطالعة " ، أي تجريد الإشارة إلى المطلوب بالسلوك اطلاعا على حقائقه .
قوله : " وتفريد الإشارة بالقبض غيرة " ، أي تخليص الإشارة إلى المطلوب بالقبض غيرة عليه .
والمقصود : أنه تارة يفرد إشارته بما أولاه الحق ، لا يكتمه ولا يخفيه ، وتارة يفرد إشارته بحقائق السلوك اطلاعا عليها ، وإطلاعا لغيره ، وتارة يشير بالقبض غيرة وتسترا ، فيشير بالافتخار تارة ، وبالاطلاع تارة ، وبالقبض تارة .
فافتخاره بالمنعم ونعمه ، لا بنفسه وصفته ، وإطلاعه لغيره : تعليم وإرشاد وتبصير ، وقبضه غيرة وستر ، وحقيقة الأمر ما ذكرناه : أن الصادق بحسب دواعي صدقه وحاله مع الله ، وحكم وقته وما أقيم فيه .