فصل الجمع
قال : "
باب الجمع : قال الله تعالى
وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى .
قلت : اعتقد جماعة أن المراد بالآية : سلب فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - عنه ، وإضافته إلى
[ ص: 395 ] الرب تعالى ، وجعلوا ذلك أصلا في الجبر ، وإبطال نسبة الأفعال إلى العباد ، وتحقيق نسبتها إلى الرب وحده ، وهذا غلط منهم في فهم القرآن ، فلو صح ذلك لوجب طرده في جميع الأعمال ، فيقال : ما صليت إذ صليت ، وما صمت إذ صمت ، وما ضحيت إذ ضحيت ، ولا فعلت كل فعل إذ فعلته ، ولكن الله فعل ذلك ، فإن طردوا ذلك لزمهم في جميع أفعال العباد - طاعتهم ومعاصيهم - إذ لا فرق ، فإن خصوه بالرسول - صلى الله عليه وسلم - وحده وأفعاله جميعها ، أو رميه وحده ؛ تناقضوا ، فهؤلاء لم يوفقوا لفهم ما أريد بالآية .
وبعد ، فهذه الآية نزلت في شأن رميه - صلى الله عليه وسلم - المشركين يوم
بدر بقبضة من الحصباء ، فلم تدع وجه أحد منهم إلا أصابته ، ومعلوم أن تلك الرمية من البشر لا تبلغ هذا المبلغ ، فكان منه - صلى الله عليه وسلم - مبدأ الرمي ، وهو الحذف ، ومن الله سبحانه وتعالى نهايته ، وهو الإيصال ، فأضاف إليه رمي الحذف الذي هو مبدؤه ، ونفى عنه رمي الإيصال الذي هو نهايته ، ونظير هذا : قوله في الآية نفسها
فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم ثم قال :
وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى فأخبره : أنه وحده هو الذي تفرد بقتلهم ، ولم يكن ذلك بكم أنتم ، كما تفرد بإيصال الحصى إلى أعينهم ، ولم يكن ذلك من رسوله ولكن وجه الإشارة بالآية : أنه سبحانه أقام أسبابا ظاهرة ، كدفع المشركين ، وتولى دفعهم ، وإهلاكهم بأسباب باطنة غير الأسباب التي تظهر للناس ، فكان ما حصل من الهزيمة والقتل والنصرة مضافا إليه وبه ، وهو خير الناصرين .
قال :
" الجمع : ما أسقط التفرقة ، وقطع الإشارة ، وشخص عن الماء والطين ، بعد صحة التمكين ، والبراءة من التلوين ، والخلاص من شهود الثنوية ، والتنافي من إحساس الاعتلال ، والتنافي من شهود شهودها ، وهو على ثلاث درجات : جمع علم ، ثم جمع وجود ، ثم جمع عين .
قوله : " الجمع : ما أسقط التفرقة " هذا حد غير محصل للفرق بين ما يحمد وما
[ ص: 396 ] يذم من الجمع والتفرقة ، فإن " الجمع " ينقسم إلى صحيح وباطل ، و " التفرقة " تنقسم إلى محمود ومذموم ، وكل منهما لا يحمد مطلقا ، ولا يذم مطلقا ، فيراد بالجمع : جمع الوجود ، وهو جمع الملاحدة القائلين بوحدة الوجود ، ويريدون بالتفرقة : الفرق بين القديم والمحدث ، وبين الخالق والمخلوق ، وأصحابه يقولون : الجمع ما أسقط هذه التفرقة ، ويقولون عن أنفسهم : إنهم أصحاب جمع الوجود ، ولهذا صرح بما ذكرنا محققو الملاحدة ، فقالوا : التفرقة اعتبار الفرق بين وجود ووجود ، فإذا زال الفرق في نظر المحقق حصل له حقيقة الجمع .
ويراد بالجمع : الجمع بين الإرادة والطلب على المراد المطلوب وحده ، وبالتفرقة : تفرقة الهمة والإرادة ، وهذا هو الجمع الصحيح ، والتفرقة المذمومة ، فحد الجمع الصحيح : ما أزال هذه التفرقة ، وأما جمع يزيل التفرقة بين الرب والعبد ، والخالق والمخلوق ، والقديم والمحدث فأبطل الباطل ، وتلك التفرقة هي الحق ، وأهل هذه التفرقة هم أهل الإسلام والإيمان والإحسان ، كما أن أهل ذلك الجمع هم أهل الإلحاد والكفر والوثنية .
ويراد بالجمع : جمع الشهود ، وبالتفرقة : ما ينافي ذلك ، فإذا زال الفرق في نظر المشاهد ، وهو مثبت للفرق ؛ كان ذلك جمعا في شهوده خاصة ، مع تحققه بالفرق .
فإذا عرف هذا ، فالجمع الصحيح : ما أسقط التفرقة الطبيعية النفسية ، وهي التفرقة المذمومة ، وأما التفرقة الأمرية الشرعية - بين المأمور والمحظور ، والمحبوب والمكروه - فلا يحمد جمع أسقطها ، بل يذم كل الذم ، وبمثل هذه المجملات دخل على أصحاب السلوك والإرادة ما دخل .
قوله " وقطع الإشارة " هو من جنس قوله " ما أسقط التفرقة " قال أهل الإلحاد : لما كانت الإشارة نسبة بين شيئين - مشير ، ومشار إليه - كانت مستلزمة للثنوية ، فإذا جاءت الوحدة جمعية ، وذهبت الثنوية ؛ انقطعت الإشارة .
وقال أهل التوحيد : إنما تنقطع الإشارة عند كمال الجمعية على الله ، فلا يبقى في صاحب هذه الجمعية موضع للإشارة ؛ لأن جمعيته على المطلوب المراد غيبته عن الإشارة إليه ، وأيضا فإن جمعيته أفنته عن نفسه وإشارته ، ففي مقام الفناء تنقطع الإشارة ؛ لأنها من أحكام البشرية .
قوله : " وشخص عن الماء والطين " ، هذا يحتمل معنيين .
[ ص: 397 ] أحدهما : أن يريد بالماء والطين بني آدم ، ونفسه من جملتهم ، أي شخص عن النظر إلى الناس والالتفات إليهم ، وتعلق القلب بهم بالكلية ، وخصهم بالذكر لأن أكثر العلائق ، وأصعبها وأشدها قطعا لصاحبها هي علائقهم ، فإذا شخص قلبه عنهم بالكلية ، فعن غيرهم ممن هو أبعد إليه منهم أولى وأحرى .
وفي ذكر الماء والطين تقرير لهذا الشخوص عنهم ، وتنبيه على تعينه ووجوبه ، فإن المخلوق من الماء والطين بشر ضعيف ، لا يملك لنفسه - ولا لمن تعلق به - جلب منفعته ، ولا دفع مضرة ، فإن الماء والطين منفعل لا فاعل ، وعاجز مهين لا قوي متين ، كما قال تعالى :
فاستفتهم أهم أشد خلقا أم من خلقنا إنا خلقناهم من طين لازب وأخبر : أنه خلقنا
من ماء مهين فحقيق بابن الماء والطين أن يشخص عنه القلب ، لا إليه ، وأن يعول على خالقه وحده لا عليه وأن يجعل رغبته كلها فيه وفيما لديه .
والمعنى الثاني - الذي يحتمله كلامه - : أن يشخص عن أحكام الطبيعة السفلية الناشئة من الماء والطين ، وعن متعلقاتها إلى أحكام الأرواح العلوية .
ولما كان الله سبحانه وتعالى - بحكمته وعجيب صنعه - قد جعل الإنسان مركبا من جوهرين : جوهر طبيعي كثيف ، وهو الجسم ، وجوهر روحاني لطيف ، وهو الروح ، ومن شأن كل شكل أن يميل إلى شكله ، ومن طبع كل مثل أن ينجذب إلى مثله - صار الإنسان ينجذب إلى العالم الطبيعي ، بما فيه من الكثافة ، وإلى العالم الروحاني بما فيه من اللطافة ، فصار في الإنسان قوتان متضادتان إحداهما : تجذبه سفلا ، والثانية : تجذبه علوا ، فمن شخص عن طبيعة الماء والطين ، إلى محل الأرواح العلوية ، التي ليست من هذا العالم السفلي ؛ كان من أهل هذا الجمع المحمود ، الذي جمعه من متفرقات النفس والطبع .
قوله : " بعد صحة التمكين ، والبراءة من التلوين ، والخلاص من شهود الثنوية " ، معناه : أن العبد لا يمكنه أن يشخص عن الماء والطين إلا بعد صحة تمكنه في المعرفة ، وبراءته من التلوين ، فشرط الشيخ حصول التمكين له ، وانتفاء التلوين عنه ، وخلاصه من شهود الثنوية .
فالتلوين : تلونه لإجابة دواعي الطبع والنفس ، وشهود الثنوية : عبارة مجملة
[ ص: 398 ] محتملة ، وقد حملها الملحد على أنه يشهد عبدا وربا ، وقديما وحديثا ، وخالقا ومخلوقا ، والتوحيد المحض : أن يتخلص من ذلك بشهوده وحدة الوجود ، ومتى شهد تعدد الوجود كان ثنويا عند الملاحدة .
وأما الموحدون : فالثنوية التي يجب التخلص منها : أن يتخذ إلهين اثنين ، فيشهد مع الله إلها آخر ، وأما كونه شهد مع الله موجودا غيره ، وهو موجده وخالقه وفاطره : فليس بثنوية ، بل هو توحيد خالص ، ولا يتم له التوحيد إلا بهذا الشهود ليصح له نفي الإلهية عنه ، وإلا فكيف ينفي الإلهية عما لا يشهده ويشهد نفيها عنه ؟
والمقصود : أن صاحب الجمع إذا شهد ربا وعبدا ، وخالقا ومخلوقات ، وآمرا وفاعلا منفذا ، ومحركا ، ومتحركا ، ووليا وعدوا : كان ذلك موجب عقد التوحيد .
وصحة التمكين هي حفظ الأصل الذي هو بقاء شهود الرسوم في مرتبتها .
وكأنه نبه بذلك على الاحتراز من القوم الذي تخطفهم لوائح شهود الجمع ، وتمكنهم ضعيف ، فينكرون صور الخلق ، حتى يقول أحدهم : أنا نور من نور ربي ، لما يغلب على أحدهم من شهود الجمع ، وعدم تمكنه في البقاء ، وهذا قد يعرض للصادق أحيانا ، فيعلم أنه غالط ، فيرجع إلى الأصل ، ويحكم العلم على الحال ، فإذا صحا علم أنه غالط مخطئ ، وفي مثل هذه الحال قال
أبو يزيد : سبحاني ، وما في الجبة إلا الله ، ونحو ذلك ، فأخذ قوم هذه الشطحات فجعلوها غاية يجرون إليها ، ويعملون عليها ، فالشيخ شرط : أنه لا يثبت شهود الجمع إلا لمن تمكن في شهود طور البقاء .
قوله : " والتنافي من الإحساس بالاعتلال " .
الاعتلال عندهم : هو التفرقة في الأسباب ، والوقوف مع الربط الواقع بين المسببات وأسبابها ، وذلك عقد لا يحله إلا شهود الجمع ، ولا يخفى ما في هذه العبارة من العجم والتعقيد ، وكذلك قوله " والتنافي من شهود شهودها " ومراده : أن ينتفي عنه شهود هذه الأشياء - التي ذكرها - كلها ، وأن يفنى عن هذا الشهود ، فإنه إن لم يفن عنها كلها ، وعن شهود فنائه ، وإلا فهو معها ؛ لأنه يحس بها ، ولا يقع الإحساس إلا بما هو موجود عند صاحب الإحساس ، فإذا غاب عن شهودها ، ثم عن شهود الشهود : فقد استقر قدمه في حضرة الجمع .
وقد تقدم غير مرة أن هذا ليس بكمال ، ولا مقصود في نفسه ، ولا يعطي
[ ص: 399 ] كمالا ، ولا فيه معرفة ، ولا عبودية ، ولا دعت إليه الرسل البتة ، ولا أشار إليه القرآن ، ولا وصفه أهل الطريق المتقدمون ، وغايته أن يشبه صاحبه بالغائب عن عقله وحسه وإدراكه ، وغايته : أن يكون عارضا من عوارض الطريق ليس بلازم ، فضلا عن أن يكون غاية .
ولما جعله من جعله غاية مطلوبة ، يشمر إليها السالكون ؛ دخل بسبب ذلك من الفساد على من شمر إليه ما يعلمه الراسخون في العلم من أئمة هذا الشأن ، والله المستعان ، والعبودية المطلوبة من العبد بمعزل عن ذلك ، وبالله التوفيق .