قوله : " وهو على
ثلاث درجات : جمع علم ، ثم جمع وجود ، ثم جمع عين ، فأما جمع العلم : فهو تلاشي علوم الشواهد في العلم اللدني صرفا ، وأما جمع الوجود : فهو تلاشي نهاية الاتصال في عين الوجود محقا ، وأما جمع العين : فهو تلاشي كل ما تقله الإشارة في ذات الحق حقا .
علوم الشواهد هي ما حصلت من الاستدلال بالأثر على المؤثر ، وبالمصنوع على الصانع ، فالمصنوعات شواهد وأدلة وآثار ، وعلوم الشواهد : هي المستندة إلى الشواهد الحاصلة عنها ، والعلم اللدني هو العلم الذي يقذفه الله في القلب إلهاما بلا سبب من العبد ، ولا استدلال ، ولهذا سمي لدنيا ، قال الله تعالى :
وعلمناه من لدنا علما والله تعالى هو الذي علم العباد ما لا يعلمون ، كما قال تعالى :
علم الإنسان ما لم يعلم ولكن هذا العلم أخص من غيره ، ولذلك أضافه إليه سبحانه ، كبيته وناقته وبلده وعبده ، ونحو ذلك ، فتضمحل العلوم المستندة إلى الأدلة والشواهد في العلم اللدني ، الحاصل بلا سبب ولا استدلال ، هذا مضمون كلامه .
ونحن نقول : إن العلم الحاصل بالشواهد والأدلة : هو العلم الحقيقي ، وأما ما يدعي حصوله بغير شاهد ولا دليل : فلا وثوق به ، وليس بعلم ، نعم قد يقوى العلم الحاصل بالشواهد ويتزايد ، بحيث يصير المعلوم كالمشهود ، والغائب كالمعاين ، وعلم اليقين كعين اليقين ، فيكون الأمر شعورا أولا ، ثم تجويزا ، ثم ظنا ، ثم علما ، ثم معرفة ، ثم علم يقين ، ثم حق يقين ، ثم عين يقين ، ثم تضمحل كل مرتبة في التي فوقها ، بحيث يصير الحكم لها دونها ، فهذا حق .
[ ص: 400 ] وأما دعوى وقوع نوع من العلم بغير سبب من الاستدلال : فليس بصحيح ، فإن الله سبحانه ربط التعريفات بأسبابها ، كما ربط الكائنات بأسبابها ، ولا يحصل لبشر علم إلا بدليل يدله عليه ، وقد أيد الله سبحانه رسله بأنواع الأدلة والبراهين التي دلتهم على أن ما جاءهم هو من عند الله ، ودلت أممهم على ذلك ، وكان معهم أعظم الأدلة والبراهين على أن ما جاءهم هو من عند الله ، وكانت براهينهم أدلة وشواهد لهم وللأمم ، فالأدلة والشواهد التي كانت لهم ، ومعهم أعظم الشواهد والأدلة ، والله تعالى شهد بتصديقهم بما أقام عليه من الشواهد ، فكل علم لا يستند إلى دليل فدعوى لا دليل عليها ، وحكم لا برهان عند قائله ، وما كان كذلك لم يكن علما ، فضلا عن أن يكون لدنيا .
فالعلم اللدني : ما قام الدليل الصحيح عليه أنه جاء من عند الله على لسان رسله ، وما عداه فلدني من لدن نفس الإنسان ، منه بدأ وإليه يعود ، وقد انبثق سد العلم اللدني ، ورخص سعره ، حتى ادعت كل طائفة أن علمهم لدني ، وصار من تكلم في حقائق الإيمان والسلوك وباب الأسماء والصفات بما يسنح له ، ويلقيه شيطانه في قلبه : يزعم أن علمه لدني ، فملاحدة الاتحادية ، وزنادقة المنتسبين إلى السلوك يقولون : إن علمهم لدني ، وقد صنف في العلم اللدني متهوكو المتكلمين ، وزنادقة المتصوفين ، وجهلة المتفلسفين ، وكل يزعم أن علمه لدني ، وصدقوا وكذبوا فإن اللدني منسوب إلى " لدن " بمعنى عند ، فكأنهم قالوا : العلم العندي ، ولكن الشأن فيمن هذا العلم من عنده ومن لدنه ، وقد ذم الله تعالى بأبلغ الذم من ينسب إليه ما ليس من عنده ، كما قال تعالى
ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون وقال تعالى :
فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله وقال تعالى :
ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء فكل من قال : هذا العلم من عند الله - وهو كاذب في هذه النسبة - فله نصيب وافر من هذا الذم ، وهذا في القرآن كثير ، يذم الله سبحانه من أضاف إليه ما لا علم له به ، ومن قال عليه ما لا يعلم ، ولهذا رتب سبحانه المحرمات أربع مراتب ، وجعل أشدها : القول عليه بلا علم ، فجعله آخر مراتب المحرمات التي لا تباح بحال ، بل هي محرمة في كل ملة ، وعلى لسان كل
[ ص: 401 ] رسول ، فالقائل : إن هذا علم لدني ، لما لا يعلم أنه من عند الله ، ولا قام عليه برهان من الله أنه من عنده : كاذب مفتر على الله ، وهو من أظلم الظالمين ، وأكذب الكاذبين .
قوله : " وأما جمع الوجود : فهو تلاشي نهاية الاتصال في عين الوجود محقا " .
" تلاشي نهاية الاتصال " : هو فناء العبد في الشهود ، و " نهاية الاتصال " : هو ما ذكره في الدرجة الثالثة من باب الاتصال " أنه لا يدرك منه نعت ولا مقدار إلا اسم معار ، ولمح إليه مشار " ، فحقيقة الجمع في هذه الدرجة : تلاشي ذلك في عين الوجود ، أي في حقيقته ، ويريد بالوجود : ما أشار إليه في الدرجة الثانية من باب الوجود ، وهو قوله " وجود الحق : وجود عين ، منقطعا عن مساغ الإشارة " فتضمحل نهاية الاتصال في هذا الوجود محقا أي ذوبانا وفناء .
قوله : " وأما جمع العين : فهو تلاشي كل ما تقله الإشارة في ذات الحق حقا " .
" تقله الإشارة " أي تحمله وتقوم به والإشارة تارة تكون باليد والرأس فتكون إيماء ، وتارة تكون بالعين فتكون رمزا ، وتارة تكون باللفظ فيسمى تعريضا ، وتارة تكون بالذهن والعقل ، فتضمحل كل هذه الأنواع ، وتبطل عند شهود العين في حضرة الجمع ، وظهور جلال الذات المقدسة ، والذات : هي الحاملة للصفات والأفعال .
فعرفت من هذا : أنه في الدرجة الأولى يغيب عن جميع العلوم المتعلقة بالأدلة والشواهد بالعلم اللدني ، وفي الدرجة الثانية : يغيب عن اتصاله وشهود اتصاله بالوجود ، فإن الوجود فوق الاتصال - كما تقدم - وهذا كما يغيب الواجد الذي قد ظفر بموجوده عن شهود وصوله إليه واتصاله به ، فتفنيه عين وجوده عن شهود نفسه وصفاتها ، وفي الدرجة الثالثة : يضمحل كل ما تحمله الإشارة - إلى ذات ، أو إلى صفة ، أو حال ، أو مقام - في ذات الحق سبحانه ، فلا يبقى هناك ما يشار إليه سواه .