فصل
قوله : " وهذا
توحيد العامة ، الذي يصح بالشواهد " .
قد تبين أن هذا توحيد خاصة الخاصة ، الذي لا شيء فوقه ، ولا أخص منه ، وأن الخليلين أكمل الناس فيه توحيدا ، فليهن العامة نصيهم منه .
قوله " يصح بالشواهد " أي بالأدلة والآيات والبراهين ، وهذا مما يدل على كماله وشرفه أن قامت عليه الأدلة ، ونادت عليه الشواهد ، وأوضحته الآيات والبراهين ، وما عداه فدعاوى مجردة ، لا يقوم عليها دليل ، ولا تصح بشاهد ، فكل توحيد لا يصح بشاهد فليس بتوحيد ، فلا يجوز أن يكون توحيد أكمل من التوحيد الذي يصح بالشواهد ، والآيات ، وتوحيد القرآن من أوله إلى آخره كذلك .
قوله : " هذا هو التوحيد الظاهر الجلي ، الذي نفى الشرك الأعظم " .
فنعم ، لعمر الله ، ولظهوره وجلائه أرسل الله به رسله ، وأنزل به كتبه ، وأمر الله به الأولين والآخرين من عباده ، وأما الرمز والإشارة والتعقيد ، الذي لا يكاد أن يفهمه أحد من الناس إلا بجهد وكلفة فليس مما جاءت به الرسل ، ولا دعوا إليه ، فظهور هذا التوحيد وانجلاؤه ووضوحه ، وشهادة الفطر والعقول به من أعظم الأدلة أنه
أعلى مراتب التوحيد ، وذروة سنامه ، ولذلك قوي على نفي الشرك الأعظم ، فإن الشيء كلما عظم لا يدفعه إلا العظيم ، فلو كان شيء أعظم من هذا التوحيد لدفع الله به الشرك الأعظم ، ولعظمته وشرفه ؛ نصبت عليه القبلة وأسست عليه الملة ، ووجبت به الذمة ، وانفصلت به دار الكفر من دار الإسلام ، وانقسم به الناس إلى سعيد وشقي ،
[ ص: 451 ] ومهتد وغوي ، ونادت عليه الكتب والرسل .
قوله " وإن لم يقوموا بحسن الاستدلال " يعني : هو مستتر في قلوب أهله ، وإن كان أكثرهم لا يحسن الاستدلال عليه تقريرا وإيضاحا ، وجوابا عن المعارض ، ودفعا لشبه المعاند ، ولا ريب أن أكثر الناس لا يحسنون ذلك ، وهذا قدر زائد على وجود التوحيد في قلوبهم ، فما كل من وجد شيئا وعلمه وتيقنه أحسن أن يستدل عليه ، ويقرره ، ويدفع الشبه القادحة فيه ، فهذا لون ووجوده لون ، ولكن لابد - مع ذلك - من نوع استدلال قام عنده ، وإن لم يكن على شروط الأدلة التي ينظمها أهل الكلام وغيرهم وترتيبها ، فهذه ليست شرطا في التوحيد - لا في معرفته والعلم به ، ولا في القيام به عملا وحالا - فاستدلال كل أحد بحسبه ، ولا يحصي أنواع الاستدلال ووجوهه ومراتبه إلا الله ، فلكل قوم هاد ، ولكل علم صحيح ويقين دليل يوجبه ، وشاهد يصح به ، وقد لا يمكن صاحبه التعبير عنه عجزا وعيا ، وإن عبر عنه فقد لا يمكنه التعبير عنه باصطلاح أهل العلم وألفاظهم ، وكثيرا ما يكون الدليل الذي عرف به الحق أصح من كثير من أدلة المتكلمين ومقدماتها ، وأبعد عن الشبه ، وأقرب تحصيلا للمقصود ، وإيصالا إلى المدلول عليه .
بل من استقرأ أحوال الناس رأى أن كثيرا من أهل الإسلام - أو أكثرهم - أعظم توحيدا ، وأكثر معرفة ، وأرسخ إيمانا من أكثر المتكلمين ، وأرباب النظر والجدال ، ويجد عندهم من أنواع الأدلة والآيات التي يصح بها إيمانهم ما هو أظهر وأوضح وأصح مما عند المتكلمين ، وهذه الآيات التي ندب الله عباده إلى النظر فيها ، والاستدلال بها على توحيده ، وثبوت صفاته وأفعاله ، وصدق رسله هي آيات مشهودة بالحس ، معلومة بالعقل ، مستقرة في الفطر ، لا يحتاج الناظر فيها إلى أوضاع أهل الكلام والجدل ، واصطلاحهم ، وطرقهم البتة ، وكل من له حس سليم ، وعقل يميز به يعرفها ويقر بها ، وينتقل من العلم بها إلى العلم بالمدلول ، وفي القرآن ما يزيد على عشرات ألوف من هذه الآيات البينات ، ومن لم يحفظ القرآن فإنه إذا سمعها وفهمها وعقلها انتقل ذهنه منها إلى المدلول أسرع انتقال وأقربه .
وبالجملة : فما كل من علم شيئا أمكنه أن يستدل عليه ، ولا كل من أمكنه الاستدلال عليه يحسن ترتيب الدليل وتقريره ، والجواب عن المعارض ، والشواهد التي ذكرها : هي الأدلة ، كالاستدلال بالمصنوع على الصانع ، والمخلوق على
[ ص: 452 ] الخالق ، وهذه طريقة القرآن الذي لا توحيد أكمل من توحيده .
قوله : " بعد أن يسلموا من الشبهة ، والحيرة ، والريبة " ، الشبهة : الشكوك التي توقع في اشتباه الحق بالباطل ، فيتولد عنها الحيرة والريبة ، وهذا حق ، فإن هذا التوحيد لا ينفع إن لم يسلم قلب صاحبه من ذلك ، وهذا هو القلب السليم الذي لا يفلح إلا من أتى الله به ، فيسلم من الشبه المعارضة لخبره ، والإرادات المعارضة لأمره ، بل ينقاد للخبر تصديقا واستيقانا ، وللطلب إذعانا وامتثالا .
قوله : " بصدق شهادة صححها قبول القلب " ، أي سلموا من الشبهة والحيرة والريبة : بصدق شهادة تواطأ عليها القلب واللسان ، فصحت شهادتهم بقبول قلوبهم لها ، واعتقادهم صحتها ، والجزم بها ، بخلاف شهادة المنافق التي لم يقبلها قلبه ، ولم يواطئ عليها لسانه .
قوله : " وهو توحيد العامة الذي يصح بالشواهد ، قد عرفت أن هذا هو التوحيد الذي دعت إليه الرسل ، ونزلت به الكتب ، واتفقت عليه الشرائع ، ثم بين مراده بالشواهد أنها الرسالة والصنائع ، فقال : " والشواهد : الأدلة على التوحيد ، والرسالة أرشدت إليها ، وعرفت بها ، ومقصوده : أن الشواهد نوعان : آيات متلوة ، وهي الرسالة ، وآيات مرئية ، وهي الصنائع .
قوله : " ويجب بالسمع ، ويوجد بتبصير الحق ، وينمو على مشاهد الشواهد " .
هذه ثلاث مسائل ، إحداها : ما يجب به ، والثانية : ما يوجد به ، والثالثة : ما ينمو به .
فأما المسألة الأولى : فاختلف فيها الناس ، فقالت طائفة : يجب بالعقل ، ويعاقب على تركه ، والسمع مقرر لما وجب بالعقل مؤكد له ، فجعلوا وجوبه والعقاب على تركه ثابتين بالعقل ، والسمع مبين ومقرر للوجوب والعقاب ، وهذا قول
المعتزلة ومن وافقهم من أتباع الأئمة في مسألة التحسين والتقبيح العقليين .
[ ص: 453 ] وقالت طائفة : لا يثبت بالعقل ، لا هذا ولا هذا ، بل لا يجب بالعقل فيها شيء ، وإنما الوجوب بالشرع ، ولذلك لا يستحق العقاب على تركه ، وهذا قول الأشعرية ومن وافقهم على نفي التحسين والتقبيح ، والقولان لأصحاب
أحمد nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي وأبي حنيفة .
والحق : أن وجوبه ثابت بالعقل والسمع ، والقرآن على هذا يدل ، فإنه يذكر الأدلة والبراهين العقلية على التوحيد ، ويبين حسنه وقبح الشرك عقلا وفطرة ، ويأمر بالتوحيد وينهى عن الشرك ، ولهذا ضرب الله سبحانه الأمثال ، وهي الأدلة العقلية ، وخاطب العباد بذلك خطاب من استقر في عقولهم وفطرهم حسن التوحيد ووجوبه ، وقبح الشرك وذمه ، والقرآن مملوء بالبراهين العقلية الدالة على ذلك ، كقوله
ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون وقوله
ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا هل يستوون الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم وقوله
ياأيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز إلى أضعاف ذلك من براهين التوحيد العقلية التي أرشد إليها القرآن ونبه عليها .
ولكن هاهنا أمر آخر ، وهو أن العقاب على ترك هذا الواجب يتأخر إلى حين ورود الشرع ، كما دل عليه قوله تعالى
وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا وقوله
كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقوله
وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلو عليهم آياتنا وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون وقوله
ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون [ ص: 454 ] فهذا يدل على أنهم ظالمون قبل إرسال الرسل ، وأنه لا يهلكهم بهذا الظلم قبل إقامة الحجة عليهم ، فالآية رد على الطائفتين معا ، من يقول : إنه لا يثبت الظلم والقبح إلا بالسمع ، ومن يقول : إنهم معذبون على ظلمهم بدون السمع ، فالقرآن يبطل قول هؤلاء وقول هؤلاء ، كما قال تعالى
ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين فأخبر : أن ما قدمت أيديهم قبل إرسال الرسل سبب لإصابتهم بالمصيبة ، ولكن لم يفعل سبحانه ذلك قبل إرسال الرسول الذي يقيم به حجته عليهم ، كما قال تعالى
رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وقال تعالى
وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة وقوله
أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين - إلى قوله -
بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين وهذا في القرآن كثير ، يخبر أن الحجة إنما قامت عليهم بكتابه ورسوله ، كما نبههم بما في عقولهم وفطرهم : من حسن التوحيد والشكر ، وقبح الشرك والكفر .
وقد ذكرنا هذه المسألة مستوفاة من كتاب مفتاح دار السعادة وذكرنا هناك نحوا من ستين وجها ، تبطل قول من نفى القبح العقلي ، وزعم أنه ليس في الأفعال ما يقتضي حسنها ولا قبحها ، وأنه يجوز أن يأمر الله بعين ما نهى عنه ، وينهى عن عين ما أمر به ، وأن ذلك جائز عليه ، وإنما الفرق بين المأمور والمنهي بمجرد الأمر والنهي ، لا بحسن هذا وقبح هذا ، وأنه لو نهى عن التوحيد والإيمان والشكر لكان قبيحا ، ولو أمر بالشرك والكفر والظلم والفواحش لكان حسنا ، وبينا أن هذا القول مخالف للعقول والفطر ، والقرآن والسنة .
والمقصود : الكلام على قول الشيخ " ويجب بالسمع " ، وأن الصواب وجوبه
[ ص: 455 ] بالسمع والعقل ، وإن اختلفت جهة الإيجاب ، فالعقل يوجبه : بمعنى اقتضائه لفعله ، وذمه على تركه ، وتقبيحه لضده ، والسمع يوجبه بهذا المعنى ، ويزيد : إثبات العقاب على تركه ، والإخبار عن مقت الرب تعالى لتاركه ، وبغضه له ، وهذا قد يعلم بالعقل ، فإنه إذا تقرر قبح الشيء وفحشه بالعقل ، وعلم ثبوت كمال الرب جل جلاله بالعقل أيضا : اقتضى ثبوت هذين الأمرين : علم العقل بمقت الرب تعالى لمرتكبه ، وأما تفاصيل العقاب ، وما يوجبه مقت الرب منه : فإنما يعلم بالسمع .
واعلم أنه إن لم يكن حسن التوحيد وقبح الشرك معلوما بالعقل ، مستقرا في الفطر ، فلا وثوق بشيء من قضايا العقل ، فإن هذه القضية من أجل القضايا البديهيات ، وأوضح ما ركب الله في العقول والفطر ، ولهذا يقول سبحانه عقيب تقرير ذلك أفلا تعقلون أفلا تذكرون وينفي العقل عن أهل الشرك ، ويخبر عنهم بأنهم يعترفون في النار : أنهم لم يكونوا يسمعون ولا يعقلون ، وأنهم خرجوا عن موجب السمع والعقل ، وأخبر عنهم أنهم
صم بكم عمي فهم لا يعقلون وأخبر عنهم أن سمعهم وأبصارهم وأفئدتهم لم تغن عنهم شيئا ، وهذا إنما يكون في حق من خرج عن موجب العقل الصريح والفطرة الصحيحة ، ولو لم يكن في صريح العقل ما يدل على ذلك لم يكن في قوله تعالى " انظروا " و " اعتبروا " و " سيروا في الأرض فانظروا " فائدة ، فإنهم يقولون : عقولنا لا تدل على ذلك ، وإنما هو مجرد إخبارك ، فما هذا النظر والتفكر والاعتبار والسير في الأرض ؟ وما هذه الأمثال المضروبة ، والأقيسة العقلية والشواهد العيانية ؟ أفليس في ذلك أظهر دليل على حسن التوحيد والشكر ؟
وقبح الشرك والكفر مستقر في العقول والفطر ، معلوم لمن كان له قلب حي ، وعقل سليم ، وفطرة صحيحة ؟ قال تعالى
ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون وقال تعالى
وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون وقال تعالى
إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد وقال تعالى
أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور [ ص: 456 ] وقال تعالى
كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون وقال تعالى
قل انظروا ماذا في السماوات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون وقال تعالى
ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون .
ومن بعض الأدلة العقلية : ما أبقاه الله تعالى من آثار عقوبات أهل الشرك وآثار ديارهم ، وما حل بهم ، وما أبقاه من نصر أهل التوحيد وإعزازهم ، وجعل العاقبة لهم ، قال تعالى
وعادا وثمود وقد تبين لكم من مساكنهم وقال في
ثمود فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا إن في ذلك لآية لقوم يعلمون وأنجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون وقال في
قوم لوط إنا منزلون على أهل هذه القرية رجزا من السماء بما كانوا يفسقون ولقد تركنا منها آية بينة لقوم يعقلون وقال تعالى
إن في ذلك لآيات للمتوسمين وإنها لبسبيل مقيم إن في ذلك لآية للمؤمنين وإن كان أصحاب الأيكة لظالمين فانتقمنا منهم وإنهما لبإمام مبين وقال تعالى في
قوم لوط وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون وهو سبحانه يذكر في سورة الشعراء ما أوقع بالمشركين من أنواع العقوبات ، ويذكر إنجاءه لأهل التوحيد ، ثم يقول
إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم فيذكر شرك هؤلاء الذين استحقوا به الهلاك ، وتوحيد هؤلاء الذين استحقوا به النجاة ، ثم يخبر أن في ذلك آية وبرهانا للمؤمنين ، ثم يذكر مصدر ذلك كله ، وأنه عن أسمائه وصفاته ، فصدور هذا الإهلاك عن عزته ، وذلك الإنجاء عن رحمته ، ثم يقرر في آخر السورة نبوة رسوله بالأدلة العقلية أحسن تقرير ، ويجيب عن شبه المكذبين له أحسن جواب ، وكذلك تقريره للمعاد بالأدلة العقلية والحسية ، فضرب الأمثال والأقيسة ،
[ ص: 457 ] فدلالة القرآن سمعية عقلية .
فصل
المسألة الثانية :
قوله : " ويوجد بتبصير الحق ، وجوب الشيء شرعا لا يستلزم وجوده حسا ، فلذلك ذكر ما يوجد به بعد ذكر ما يجب به ، وهو تبصير الحق تعالى ، ومراده : التبصير التام الذي لا تختلف عنه الهداية ، وإلا فقد يبصر العبد الحق ولا توجد منه الهداية ، كما قال تعالى
وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى فهو - سبحانه - بصرهم ، فآثروا الضلال على الهدى ، وقال تعالى
وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين وقال تعالى
وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون وقال تعالى عن
قوم فرعون وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فهذا التبصير لم يوجب وجود الهداية ؛ لأنه سبحانه لم يرد وجودها وإنما أراد وجود مجرد البصيرة ، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن .
وأما التبصير التام : فإنه يستلزم وجود الهداية ، وهو الذي أمرنا أن نسأله إياه في كل صلاة ، وقال فيه أهل الجنة
الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله وقال تعالى
والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم فعم بدعوته البيان والدلالة ، وخص بهدايته التوفيق والإلهام ، فلو قال الشيخ : ويوجد بتوفيق الله بعد تبصيره ، لكان أحسن ، ولعله هو مراده ، والله أعلم .
فصل
المسألة الثالثة :
قوله : " وينمو على مشاهدة الشواهد " وهذا أيضا يحتاج إلى أمر آخر ، وهو الإجابة لداعي الحق ، فلا يكفي مجرد مشاهدة الشواهد في نموه
وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون يمر عليها العبد ولا ينمو بها ولا يزيد ، بل ينقص إيمانه وتوحيده ، فإذا أجاب الداعي وتبصر في الشواهد نما توحيده ، وقوي
[ ص: 458 ] إيمانه ، وقال تعالى
والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم وقال تعالى
ويزيد الله الذين اهتدوا هدى وقال تعالى
فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا .
وقد تضمن كلام الشيخ ما دلت عليه النصوص ، واتفق عليه الصحابة والتابعون : أن الإيمان والتوحيد ينموان ويتزايدان ، وهذا من أعظم أصول أهل السنة الذي فارقوا به
الجهمية والمرجئة .