فصل : المرتبة الثالثة
البصيرة في الوعد والوعيد وهي أن تشهد قيام الله على كل نفس بما كسبت في الخير والشر ، عاجلا وآجلا ، في دار العمل ودار الجزاء ، وأن ذلك هو موجب إلهيته وربوبيته ، وعدله وحكمته ، فإن الشك في ذلك شك في إلهيته وربوبيته ، بل شك في وجوده ، فإنه يستحيل عليه خلاف ذلك ، ولا يليق أن ينسب إليه تعطيل الخليقة ، وإرسالها هملا ، وتركها سدى ، تعالى الله عن هذا الحسبان علوا كبيرا .
فشهادة العقل بالجزاء كشهادته بالوحدانية ، ولهذا كان الصحيح أن المعاد معلوم بالعقل ، وإنما اهتدي إلى تفاصيله بالوحي ، ولهذا يجعل الله سبحانه إنكار المعاد كفرا به سبحانه ، لأنه إنكار لقدرته ولإلهيته ، وكلاهما مستلزم للكفر به ، قال تعالى
وإن تعجب فعجب قولهم أئذا كنا ترابا أئنا لفي خلق جديد أولئك الذين كفروا بربهم وأولئك الأغلال في أعناقهم وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون .
وفي الآية قولان :
أحدهما : إن تعجب من قولهم "
أئذا كنا ترابا أئنا لفي خلق جديد " فعجب قولهم ! كيف ينكرون هذا ، وقد خلقوا من تراب ، ولم يكونوا شيئا .
[ ص: 144 ] والثاني : إن تعجب من شركهم مع الله غيره ، وعدم انقيادهم لتوحيده وعبادته وحده لا شريك له ، فإنكارهم للبعث ، وقولهم "
أئذا كنا ترابا أئنا لفي خلق جديد " أعجب .
وعلى التقديرين : فإنكار المعاد عجب من الإنسان ، وهو محض إنكار الرب والكفر به ، والجحد لإلهيته وقدرته ، وحكمته وعدله وسلطانه .
ولصاحب المنازل في البصيرة طريقة أخرى قال : البصيرة ما يخلصك من الحيرة ، وهي على ثلاث درجات ، الدرجة الأولى : أن تعلم أن الخبر القائم بتمهيد الشريعة يصدر عن عين لا يخاف عواقبها ، فترى من حقه أن تؤديه يقينا ، وتغضب له غيرة .
ومعنى كلامه : أن ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم صادر عن حقيقة صادقة ، لا يخاف متبعها فيما بعد مكروها ، بل يكون آمنا من عاقبة اتباعها ، إذ هي حق ، ومتبع الحق لا خوف عليه ، ومن حق ذلك الخبر عليك أن تؤدي ما أمرت به منه من غير شك ولا شكوى ، والأحوط بك والذي لا تبرأ ذمتك إلا به تناول الأمر بامتثال صادر عن تصديق محقق ، لا يصحبه شك ، وأن تغضب على من خالف ذلك غيرة عليه أن يضيع حقه ، ويهمل جانبه .
وإنما كانت الغيرة عند شيخ الإسلام من تمام البصيرة لأنه على قدر المعرفة بالحق ومستحقه ومحبته وإجلاله تكون الغيرة عليه أن يضيع ، والغضب على من أضاعه ، فإن ذلك دليل على محبة صاحب الحق وإجلاله وتعظيمه ، وذلك عين البصيرة ، فكما أن الشك القادح في كمال الامتثال معم لعين البصيرة ، فكذلك عدم الغضب والغيرة على حقوق الله إذا ضيعت ، ومحارمه إذا انتهكت معم لعين البصيرة .
قال : " الدرجة الثانية أن تشهد في هداية الحق وإضلاله إصابة العدل ، وفي تلوين أقسامه : رعاية البر ، وتعاين في جذبه حبل الوصل " .
[ ص: 147 ] يريد رحمه الله بشهود العدل في هدايته من هداه ، وفي إضلاله من أضله أمرين :
أحدهما : تفرده بالخلق ، والهدى والضلال .
والثاني : وقوع ذلك منه على وجه الحكمة والعدل ، لا بالاتفاق ، ولا بمحض المشيئة المجردة عن وضع الأشياء مواضعها ، وتنزيلها منازلها ، بل بحكمة اقتضت هدى من علم أنه يزكو على الهدى ، ويقبله ويشكره عليه ، ويثمر عنده ، فالله أعلم حيث يجعل رسالاته ، أصلا وميراثا ، قال تعالى
وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين وهم الذين يعرفون قدر نعمته بالهدى ، ويشكرونه عليها ، ويحبونه ويحمدونه على أن جعلهم من أهله ، فهو سبحانه ما عدل عن موجب العدل والإحسان في هداية من هدى ، وإضلال من أضل ، ولم يطرد عن بابه ولم يبعد عن جنابه من يليق به التقريب والهدى والإكرام ، بل طرد من لا يليق به إلا الطرد والإبعاد ، وحكمته وحمده تأبى تقريبه وإكرامه ، وجعله من أهله وخاصته وأوليائه .
ولا يبقى إلا أن يقال : فلم خلق من هو بهذه المثابة ؟
فهذا سؤال جاهل ظالم ضال ، مفرط في الجهل والظلم والضلال ، لأن خلق الأضداد والمتقابلات هو من كمال الربوبية ، كالليل والنهار ، والحر والبرد ، واللذة والألم ، والخير والشر ، والنعيم والجحيم .
قوله : " : وفي تلوين أقسامه رعاية البر " .
يريد بتلوين الأقسام : اختلافها في الجنس والقدر والصفة ، من أقسام الأموال والقوى ، والعلوم والأعمال ، والصنائع وغيرها ، قسمها على وجه البر والمصلحة ، فأعطى كلا منهم ما يصلحه ، وما هو الأنفع له ، برا وإحسانا .
وقوله : " وتعاين في جذبه حبل الوصال " .
يريد تعاين في توفيقه لك للطاعة ، وجذبه إياك من نفسك أنه يريد تقريبك منه ، فاستعار للتوفيق الخاص الجذب ، وللتقريب الوصال ، وأراد بالحبل السبب الموصل لك إليه .
فأشار بهذا إلى أنك تستدل بتوفيقه لك ، وجذبك نفسك ، وجعلك متمسكا
[ ص: 148 ] بحبله الذي هو عهده ووصيته إلى عباده على تقريبه لك ، تشاهد ذلك ليكون أقوى في المحبة والشكر ، وبذل النصيحة في العبودية ، وهذا كله من تمام البصيرة ، فمن لا بصيرة له فهو بمعزل عن هذا .
قال : الدرجة الثالثة : بصيرة تفجر المعرفة ، وتثبت الإشارة ، وتنبت الفراسة .
يريد بالبصيرة في الكشف والعيان أن تتفجر بها ينابيع المعارف من القلب ، ولم يقل " تفجر العلم " لأن المعرفة أخص من العلم عند القوم ، ونسبتها إلى العلم نسبة الروح إلى الجسد ، فهي روح العلم ولبه .
وصدق رحمه الله فإن بهذه البصيرة تتفجر من قلب صاحبها ينابيع من المعارف ، التي لا تنال بكسب ولا دراسة ، إن هو إلا فهم يؤتيه الله عبدا في كتابه ودينه ، على قدر بصيرة قلبه .
وقوله " وتثبت الإشارة " .
يريد بالإشارة : ما يشير إليه القوم من الأحوال والمنازلات ، والأذواق التي ينكرها الأجنبي من السلوك ، ويثبتها أهل البصائر ، وكثير من هذه الأمور ترد على السالك ، فإن كان له بصيرة ثبتت بصيرته ذلك له وحققته عنده ، وعرفته تفاصيله ، وإن لم يكن له بصيرة بل كان جاهلا ، لم يعرف تفصيل ما يرد عليه ، ولم يهتد لتثبيته .
قوله " وتنبت الفراسة معناها " .
يعني أن البصيرة تنبت في أرض القلب الفراسة الصادقة ، وهي نور يقذفه الله في القلب ، يفرق به بين الحق والباطل ، والصادق والكاذب ، قال الله تعالى
إن في ذلك لآيات للمتوسمين قال
مجاهد : للمتفرسين ، وفي
الترمذي من حديث
nindex.php?page=showalam&ids=44أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
nindex.php?page=hadith&LINKID=980150اتقوا فراسة المؤمن ، فإنه ينظر بنور الله عز وجل ثم قرأ إن في ذلك لآيات للمتوسمين .
[ ص: 149 ] والتوسم معناه تفعل من السيما ، وهي العلامة ، فسمي المتفرس متوسما ، لأنه يستدل بما يشهد على ما غاب ، فيستدل بالعيان على الإيمان ، ولهذا خص الله تعالى بالآيات والانتفاع بها هؤلاء ، لأنهم يستدلون بما يشاهدون منها على حقيقة ما أخبرت به الرسل ، من الأمر والنهي ، والثواب والعقاب ، وقد ألهم الله ذلك
لآدم ، وعلمه إياه حين علمه أسماء كل شيء ، وبنوه هم نسخته وخلفاؤه ، فكل قلب فهو قابل لذلك ، وهو فيه بالقوة ، وبه تقوم الحجة ، وتحصل العبرة ، وتصح الدلالة ، وبعث الله رسله مذكرين ومنبهين ، ومكملين لهذا الاستعداد ، بنور الوحي والإيمان ، فينضاف ذلك إلى نور الفراسة والاستعداد ، فيصير نورا على نور ، فتقوى البصيرة ، ويعظم النور ويدوم ، بزيادة مادته ودوامها ، ولا يزال في تزايد حتى يرى على الوجه والجوارح ، والكلام والأعمال ، ومن لم يقبل هدى الله ولم يرفع به رأسا دخل قلبه في الغلاف والأكنة ، فأظلم ، وعمي عن البصيرة ، فحجبت عنه حقائق الإيمان ، فيرى الحق باطلا ، والباطل حقا ، والرشد غيا ،
[ ص: 150 ] والغي رشدا ، قال تعالى
كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون " والرين " " والران " هو الحجاب الكثيف المانع للقلب من رؤية الحق والانقياد له .
وعلى حسب قوة البصيرة وضعفها تكون الفراسة ، وهي نوعان :
فراسة علوية شريفة ، مختصة بأهل الإيمان ، وفراسة سفلية دنيئة مشتركة بين المؤمن والكافر ، وهي فراسة أهل الرياضة والجوع والسهر والخلوة ، وتجريد البواطن من أنواع الشواغل ، فهؤلاء لهم فراسة كشف الصور ، والإخبار ببعض المغيبات السفلية التي لا يتضمن كشفها والإخبار بها كمالا للنفس ، ولا زكاة ولا إيمانا ولا معرفة ، وهؤلاء لا تتعدى فراستهم هذه السفليات ، لأنهم محجوبون عن الحق تعالى ، فلا تصعد فراستهم إلى التمييز بين أوليائه وأعدائه ، وطريق هؤلاء وهؤلاء .
وأما فراسة الصادقين ، العارفين بالله وأمره فإن همتهم لما تعلقت بمحبة الله ومعرفته وعبوديته ، ودعوة الخلق إليه على بصيرة ، كانت فراستهم متصلة بالله ، متعلقة بنور الوحي مع نور الإيمان ، فميزت بين ما يحبه الله وما يبغضه من الأعيان والأقوال والأعمال ، وميزت بين الخبيث والطيب ، والمحق والمبطل ، والصادق والكاذب ، وعرفت مقادير استعداد السالكين إلى الله ، فحملت كل إنسان على قدر استعداده ، علما وإرادة وعملا .
ففراسة هؤلاء دائما حائمة حول كشف طريق الرسول وتعرفها ، وتخليصها من بين سائر الطرق ، وبين كشف عيوب النفس ، وآفات الأعمال العائقة عن سلوك طريق المرسلين ، فهذا أشرف أنواع البصيرة والفراسة ، وأنفعها للعبد في معاشه ومعاده .