فصل
اشتمال الفاتحة على أنواع التوحيد
في
اشتمال هذه السورة على أنواع التوحيد الثلاثة التي اتفقت عليها الرسل صلوات الله وسلامه عليهم .
التوحيد نوعان : نوع في العلم والاعتقاد ، ونوع في الإرادة والقصد ، ويسمى الأول : التوحيد العلمي ، والثاني : التوحيد القصدي الإرادي ، لتعلق الأول بالأخبار والمعرفة ، والثاني بالقصد والإرادة ، وهذا الثاني أيضا نوعان : توحيد في الربوبية ، وتوحيد في الإلهية ، فهذه ثلاثة أنواع .
فأما
توحيد العلم : فمداره على إثبات صفات الكمال ، وعلى نفي التشبيه والمثال ،
[ ص: 49 ] والتنزيه عن العيوب والنقائص ، وقد دل على هذا شيئان : مجمل ، ومفصل .
أما المجمل : فإثبات الحمد له سبحانه ، وأما المفصل : فذكر صفة الإلهية والربوبية ، والرحمة والملك ، وعلى هذه الأربع مدار الأسماء والصفات .
فأما تضمن الحمد لذلك : فإن الحمد يتضمن مدح المحمود بصفات كماله ، ونعوت جلاله ، مع محبته والرضا عنه ، والخضوع له ، فلا يكون حامدا من جحد صفات المحمود ، ولا من أعرض عن محبته والخضوع له ، وكلما كانت صفات كمال المحمود أكثر كان حمده أكمل ، وكلما نقص من صفات كماله نقص من حمده بحسبها ، ولهذا كان الحمد كله لله حمدا لا يحصيه سواه ، لكمال صفاته وكثرتها ، ولأجل هذا لا يحصي أحد من خلقه ثناء عليه ، لما له من صفات الكمال ، ونعوت الجلال التي لا يحصيها سواه ، ولهذا ذم الله تعالى آلهة الكفار ، وعابها بسلب أوصاف الكمال عنها ، فعابها بأنها لا تسمع ولا تبصر ، ولا تتكلم ولا تهدي ، ولا تنفع ولا تضر ، وهذه صفة إله
الجهمية ، التي عاب بها الأصنام ، نسبوها إليه ، تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا ، فقال تعالى حكاية عن خليله
إبراهيم عليه السلام في محاجته لأبيه
ياأبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا فلو كان إله
إبراهيم بهذه الصفة والمثابة لقال له
آزر : وأنت إلهك بهذه المثابة ، فكيف تنكر علي ؟ لكن كان مع شركه أعرف بالله من
الجهمية ، وكذلك كفار
قريش كانوا مع شركهم مقرين بصفات الصانع سبحانه وعلوه على خلقه ، وقال تعالى
واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا اتخذوه وكانوا ظالمين فلو كان إله الخلق سبحانه كذلك لم يكن في هذا إنكار عليهم ، واستدلال على بطلان الإلهية بذلك .
فإن قيل : فالله تعالى لا يكلم عباده .
[ ص: 50 ] قيل : بلى ، قد كلمهم ، فمنهم من كلمه الله من وراء حجاب ، منه إليه بلا واسطة
كموسى ، ومنهم من كلمه الله على لسان رسوله الملكي ، وهم الأنبياء ، وكلم الله سائر الناس على ألسنة رسله ، فأنزل عليهم كلامه الذي بلغته رسله عنه ، وقالوا لهم : هذا
كلام الله الذي تكلم به ، وأمرنا بتبليغه إليكم ، ومن هاهنا قال السلف : من أنكر كون الله متكلما فقد أنكر رسالة الرسل كلهم ، لأن حقيقتها تبليغ كلامه الذي تكلم به إلى عباده ، فإذا انتفى كلامه انتفت الرسالة ، وقال تعالى في سورة طه عن
السامري فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسي أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا ورجع القول : هو التكلم والتكليم ، وقال تعالى
وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم فجعل نفي صفة الكلام موجبا لبطلان الإلهية ، وهذا أمر معلوم بالفطر والعقول السليمة والكتب السماوية : أن فاقد صفات الكمال لا يكون إلها ، ولا مدبرا ، ولا ربا ، بل هو مذموم ، معيب ناقص ، ليس له الحمد ، لا في الأولى ، ولا في الآخرة ، وإنما الحمد في الأولى والآخرة لمن له صفات الكمال ، ونعوت الجلال ، التي لأجلها استحق الحمد ، ولهذا سمى السلف كتبهم التي صنفوها في السنة وإثبات صفات الرب وعلوه على خلقه وكلامه وتكليمه توحيدا ، لأن نفي ذلك وإنكاره والكفر به إنكار للصانع وجحد له ، وإنما توحيده : إثبات صفات كماله ، وتنزيهه عن التشبيه والنقائص ، فجعل المعطلة جحد الصفات وتعطيل الصانع عنها توحيدا ، وجعلوا إثباتها لله تشبيها وتجسيما وتركيبا ، فسموا الباطل باسم الحق ، ترغيبا فيه ، وزخرفا ينفقونه به ، وسموا الحق باسم الباطل تنفيرا عنه ، والناس أكثرهم مع ظاهر السكة ، ليس لهم نقد النقاد
من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا والمحمود لا يحمد على العدم والسكوت البتة ، إلا إذا كانت سلب عيوب ونقائص ، تتضمن إثبات أضدادها من الكمالات الثبوتية ، وإلا فالسلب المحض لا حمد فيه ، ولا
[ ص: 51 ] مدح ولا كمال .
وكذلك حمده لنفسه على عدم اتخاذ الولد المتضمن لكمال صمديته وغناه وملكه ، وتعبيد كل شيء له ، فاتخاذ الولد ينافي ذلك ، كما قال تعالى
قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغني له ما في السماوات وما في الأرض .
وحمد نفسه على عدم الشريك ، المتضمن تفرده بالربوبية والإلهية ، وتوحده بصفات الكمال التي لا يوصف بها غيره ، فيكون شريكا له ، فلو عدمها لكان كل موجود أكمل منه ، لأن الموجود أكمل من المعدوم ، ولهذا لا يحمد نفسه سبحانه بعدم إلا إذا كان متضمنا لثبوت كمال ، كما حمد نفسه بكونه لا يموت لتضمنه كمال حياته ، وحمد نفسه بكونه لا تأخذه سنة ولا نوم ، لتضمن ذلك كمال قيوميته ، وحمد نفسه بأنه لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر ، لكمال علمه وإحاطته ، وحمد نفسه بأنه لا يظلم أحدا ، لكمال عدله وإحسانه ، وحمد نفسه بأنه لا تدركه الأبصار ، لكمال عظمته ، يرى ولا يدرك ، كما أنه يعلم ولا يحاط به علما ، فمجرد نفي الرؤية ليس بكمال ؛ لأن العدم لا يرى ، فليس في كون الشيء لا يرى كمال البتة ، وإنما الكمال في كونه لا يحاط به رؤية ولا إدراكا ، لعظمته في نفسه ، وتعاليه عن إدراك المخلوق له ، وكذلك حمد نفسه بعدم الغفلة والنسيان ، لكمال علمه .
فكل سلب في القرآن حمد الله به نفسه فلمضادته لثبوت ضده ، ولتضمنه كمال ثبوت ضده .
فعلمت أن حقيقة الحمد تابعة لثبوت أوصاف الكمال ، وأن نفيها نفي لحمده ، ونفي الحمد مستلزم لثبوت ضده .