فصل القصد
فإذا انتبه وأبصر أخذ في القصد وصدق الإرادة ، وأجمع القصد والنية على سفر الهجرة إلى الله ، وعلم وتيقن أنه لا بد له منه ، فأخذ في أهبة السفر ، وتعبئة الزاد ليوم المعاد ، والتجرد عن عوائق السفر ، وقطع العلائق التي تمنعه من الخروج .
وقد قسم صاحب المنازل
القصد إلى ثلاث درجات ، فقال :
[ ص: 151 ] الدرجة الأولى : قصد يبعث على الارتياض ، ويخلص من التردد ، ويدعو إلى مجانبة الأغراض .
فذكر له ثلاث فوائد : أنه يبعث على السلوك بلا توقف ، ولا تردد ، ولا علة غير العبودية ، من رياء أو سمعة ، أو طلب محمدة ، أو جاه ومنزلة عند الخلق .
قال : الدرجة الثانية : قصد لا يلقى سببا إلا قطعه ، ولا حائلا إلا منعه ولا تحاملا إلا سهله .
يعني أنه لا يلقى سببا يعوق عن المقصود إلا قطعه ، ولا حائلا دونه إلا منعه ولا صعوبة إلا سهلها .
قال : الدرجة الثالثة : قصد
الاستسلام لتهذيب العلم ، وقصد إجابة داعي الحكم ، وقصد اقتحام بحر الفناء .
يريد أنه ينقاد إلى العلم ليتهذب به ويصلح ، ويقصد إجابة داعي الحكم الديني الأمري كلما دعاه ، فإن للحكم في كل مسألة من مسائل العلم مناديا ينادي للإيمان بها علما وعملا ، فيقصد إجابة داعيها ، ولكن مراده بداعي الحكم : الأسرار والحكم الداعية إلى شرع الحكم ، فإجابتها قدر زائد على مجرد الامتثال ، فإنها تدعو إلى المحبة والإجلال ، والمعرفة والحمد ، فالأمر يدعو إلى الامتثال ، وما تضمنه من الحكم ، والغايات تدعو إلى المعرفة والمحبة .
وقوله : وقصد
اقتحام بحر الفناء .
هذا هو الغاية المطلوبة عند القوم ، وهو عند بعضهم لازم من لوازم الطريق ، وليس بغاية ، وعند آخرين عارض من عوارض الطريق ، وليس بغاية ، ولا هو لازم لكل سالك ، وأهل القوة والعزم لا يعرض لهم ، وحال البقاء أكمل منه ، ولهذا كان البقاء حال نبينا صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء ، وقد رأى ما رأى ، وحال موسى الفناء ، ولهذا خر صعقا عند تجلي الله للجبل ، وامرأة العزيز كانت أكمل حبا ليوسف من النسوة ، ولم يعرض لها ما عرض لهن عند رؤية يوسف لفنائهن وبقائها ، وسيأتي إن شاء الله تحقيق الكلام فيه .