[ ص: 166 ] فصل الفكرة
فإذا استحكمت يقظته أوجبت له الفكرة ، وهي كما تقدم تحديق القلب إلى جهة المطلوب التماسا له .
وصاحب المنازل جعلها بعد البصيرة وقال في حدها : هي تلمس البصيرة لاستدراك البغية ، أي التماس العقل المطلوب بالتفتيش عليه .
قال : وهي ثلاثة أنواع :
فكرة في عين التوحيد ، وفكرة في لطائف الصنعة ، وفكرة في معاني الأعمال والأحوال .
قلت : الفكرة فكرتان : فكرة تتعلق بالعلم والمعرفة ، وفكرة تتعلق بالطلب والإرادة .
فالتي تتعلق بالعلم والمعرفة فكرة التمييز بين الحق والباطل ، والثابت والمنفي ، والتي تتعلق بالطلب والإرادة هي الفكرة التي تميز بين النافع والضار .
ثم يترتب عليها فكرة أخرى في الطريق إلى حصول ما ينفع ، فيسلكها ، والطريق إلى ما يضر فيتركها .
فهذه ستة أقسام لا سابع لها ، هي مجال أفكار العقلاء .
فالفكرة في التوحيد استحضار أدلته ، وشواهد الدلالة على بطلان الشرك واستحالته ، وأن الإلهية يستحيل ثبوتها لاثنين ، كما يستحيل ثبوت الربوبية لاثنين فكذلك من أبطل الباطل عبادة اثنين ، والتوكل على اثنين ، بل لا تصح العبادة إلا للإله الحق ، والرب الحق ، وهو الله الواحد القهار .
[ ص: 167 ] وقد خبط صاحب المنازل في هذا الموضع ، وجاء بما يرغب عنه الكمل من سادات السالكين والواصلين إلى الله .
فقال : الفكرة في عين التوحيد اقتحام بحر الجحود .
وهذا بناء على أصله الذي أصله ، وانتهى إليه كتابه في أمر الفناء ، فإنه لما رأى أن الفكرة في عين التوحيد تبعد العبد من التوحيد الصحيح عنده ، لأن التوحيد الصحيح عنده لا يكون إلا بعد فناء الفكرة والتفكر ، والفكرة تدل على بقاء رسم لاستلزامها مفكرا ، وفعلا قائما به ، والتوحيد التام عنده لا يكون مع بقاء رسم أصلا ، كانت الفكرة عنده علامة الجحود ، واقتحاما لبحره ، وقد صرح بهذا في أبياته في آخر الكتاب :
ما وحد الواحد من واحد إذ كل من وحده جاحد توحيد من ينطق عن نعته
عارية أبطلها الواحد توحيده إياه توحيده
ونعت من ينعته لاحد
ومعنى أبياته : ما وحد الله عز وجل أحد حق توحيده الخاص ، الذي تنفى فيه الرسوم ، ويضمحل فيه كل حادث ، ويتلاشى فيه كل مكون ، فإنه لا يتصور منه التوحيد إلا ببقاء الرسم ، وهو الموحد ، وتوحيده القائم به ، فإذا وحده شهد فعله الحادث ورسمه الحادث ، وذلك جحود لحقيقة التوحيد ، الذي تنفى فيه الرسوم ، وتتلاشى فيه الأكوان ، فلذلك قال : إذ كل من وحده جاحد ، هذا أحسن ما يحمل عليه كلامه ، وقد فسره أهل الوحدة بصريح كلامهم في مذهبهم .
قالوا : معنى " كل من وحده جاحد " أي كل من وحده فقد وصف الموحد بصفة تتضمن جحد حقه الذي هو عدم انحصاره تحت الأوصاف ، فمن وصفه فقد جحد إطلاقه عن قيود الصفات .
وقوله " توحيد من ينطق عن نعته " أي توحيد المحدث له الناطق عن نعته ، عارية مستردة ، فإنه الموحد قبل توحيد هذا الناطق ، وبعد فنائه ، فتوحيده له عارية أبطلها الواحد الحق بإفنائه كل ما سواه .
[ ص: 168 ] والاتحادي يقول : معناه أن الموحد واحد من جميع الوجوه ، فأبطل ببساطة ذاته تركيب نطق واصفه ، وأبطل بإطلاقه تقييد نعت موحده .
وقوله " توحيده إياه توحيده " يعني أن توحيده الحقيقي هو توحيده لنفسه ، حيث لا هناك رسم ولا مكون ، فما وحد الله حقيقة إلا الله .
والاتحادي يقول : ما ثم غير يوحده ، بل هو الموحد لنفسه بنفسه ، إذ ليس ثم سوى في الحقيقة .
قوله " ونعت من ينعته لاحد " أي نعت الناعت له ميل وخروج عن التوحيد الحقيقي ، والإلحاد أصله الميل ، لأنه بنعته له قائم بالرسوم ، وبقاء الرسوم ينافي توحيده الحقيقي .
والاتحادي يقول : نعت الناعت له شرك ، لأنه أسند إلى المطلق ما لا يليق به إسناده من التقييد ، وذلك شرك وإلحاد .
فرحمة الله على أبي إسماعيل ، فتح للزنادقة باب الكفر والإلحاد ، فدخلوا منه وأقسموا بالله جهد أيمانهم : إنه لمنهم ، وما هو منهم ، وغره سراب الفناء ، فظن أنه لجة بحر المعرفة ، وغاية العارفين ، وبالغ في تحقيقه وإثباته ، فقاده قسرا إلى ما ترى .
الفناء